مضى أقل من شهرين بأيام على توقيع خطة إنهاء الحرب على غزة، والتي بدأت بتنفيذ المرحلة الأولى منها، بوقف إطلاق النار وتبادل المحتجزين بالأسرى، دون وقف الحرب، بل دون وقف إطلاق النار تماماً من الجانب الإسرائيلي، والدليل سقوط أكثر من 350 شهيداً خلال خمسين يوماً مضت، من خلال نحو ستمائة خرق إسرائيلي لوقف إطلاق النار، بما يؤكد ما نقوله دائماً من أن إسرائيل لا تحترم ما توقعه من اتفاقيات أو معاهدات، إضافة إلى أنها أجبرت هذه المرة، على «خطة ترامب»، على أمل أن تنجح في عدم وقف الحرب، رغم حصولها على المحتجزين الذين أطلق سراحهم وكانوا منذ 7 أكتوبر 2023 نحو 250، عبر ثلاث صفقات تبادل، بعد أن عجز الجيش الإسرائيلي رغم حرب الإبادة التي استمرت عامين عن إطلاق سراحهم بقوته العسكرية، رغم هذا فإن الانتقال للمرحلة التالية لم يحدث بعد، بل على ما يبدو هناك صراع إقليمي دولي على طبيعة ذلك الانتقال، حيث ما زال الصراع محتدماً بين طرفين، ليسا هما من كانا طرفي الحرب.
فمجرد إعلان الموافقة على خطة ترامب، في شرم الشيخ، حتى بات واضحاً أن الأمر لم يعد بين يدي نتنياهو وحماس، الثنائي الذي أشعل حرباً أقلقت الدنيا بأسرها، وهددت الشرق الأوسط برمته، لذا فإن وقفها أو وضع حد نهائي تماماً لها، تطلب أولاً، فرض وقف إطلاق النار عليهما، وصحيح أن أسرائيل أجبرت على وقف إطلاق النار، وأرغمت على قبول خطة ترامب، لكن الصحيح أيضاً أن حماس، أجبرت هي الأخرى على تلك الخطة، خاصة أن الخطة تضمنت بندين لم تكن حماس تقبل بهما، وهما تحرير المحتجزين أولاً، مع وقف إطلاق النار، دون ضمانة تامة ونهائية لوقف الحرب، والثاني، عدم انسحاب إسرائيل تماماً من قطاع غزة، ومن يستعرض شروط الطرفين، أي إسرائيل وحماس، خاصة بعد أن توقف الحديث عن صفقة جزئية، يدرك أن خطة ترامب لم تحقق ما كان يريده أو يشترطه الطرفان، المهم الآن، هو كيفية متابعة الخطة، وقبل أن نشرع في قراءة احتمالات ذلك، لا بد من التأكيد على أن المنطق السياسي حالياً، يقول، إن الأمور لا تجري تماماً وقف رغبة طرف، بل هي تسير وفق ما بين هذا وذاك، بل وحتى ليس وفق «هوى» الآخرين، نقصد الرعاة، الأميركيين، والمصريين، والقطريين والأتراك.
أولاً من الواضح أن أميركا لا تحقق رغبة نتنياهو بأن يتوقف تنفيذ الخطة، عند الحد الفاصل بين مرحلتها الأولى والثانية، كما حدث مع صفقة التبادل الجزئية التي كانت في كانون الثاني من هذا العام، بل إن أميركا اضطرت قبل أسابيع لإرسال كل طاقهما السياسي الرئيس، أي نائب الرئيس جي دي فانس، ووزير الخارجية ماركو روبيو، إضافة إلى الموفد الخاص ستيف ويتكوف، حين شعرت بأن نتنياهو يسخن الأجواء ويستعد لتنفيذ عمليات عسكرية واسعة النطاق في غزة، بما يهدد بانهيار الخطة، وذلك بعد أن حصل على معظم المحتجزين الأحياء والموتى، وهي، أي أميركا، أقامت مقراً لها في كريات غات لقوة «سنتكوم» وذلك لمتابعة تنفيذ اتفاق شرم الشيخ، وهي تضغط على نتنياهو منذ وقت من أجل الانتقال لما تعتبره المرحلة التالية من الاتفاق، وتقترح في هذا السياق الشروع بإقامة «غزة الجديدة» ابتداء من رفح، المدمرة بالكامل، والخالية تماماً من حماس والسكان، وتوجد فيها فقط الميليشات المتعاونة مع إسرائيل.
ويبدو أن إسرائيل بدأت تستجيب لهذا المقترح الأميركي، مع تسخين جبهات أخرى، في الضفة الفلسطينية ولبنان وسورية، للإبقاء على نار الحرب الإقليمية مشتعلة، حتى يضمن نتنياهو بقاء ائتلافه المتطرف في الحكم، وبقاءه هو شخصياً بالطبع، مع الاحتفاظ بمشروع إسرائيل الكبرى والعظمى قائماً، الكبرى كما أشرنا في مقال سابق، يعني أن تشمل حدود إسرائيل الجغرافية كل أرض فلسطين الانتدابية، ويبقى هذا الأمل لديه قائماً، ما دام ينجح في منع قيام دولة فلسطين، والعظمى، بإضافة أراضٍ عربية أخرى، جغرافياً تماماً، كما هو حال مزارع شبعا وما احتلته إسرائيل خلال العام الماضي من أرض لبنان، والجولان السوري المحتمل منذ 67 إضافة لما احتلته إسرائيل خلال عام مضى، وأمنياً عبر ما تسمى المناطق الأمنية التي تعني إخراج القوات العسكرية لدول الجوار، لبنان حتى شمال الليطاني وسورية حتى دمشق، كما هو حال مصر حتى غرب قناة السويس، على اعتبار أن اتفاقية سيناء جعلت شبه الجزيرة المصرية بمعظمها منزوعة السلاح.
بالمقابل فإن الدول الراعية الأخرى، مصر وقطر وتركيا، ترى ضرورة وأهمية الالتزام بتنفيذ ما نصت عليه الخطة بشكل صريح وواضح، أي إجبار إسرائيل على الانتقال للمرحلة التالية، وذلك للتأكيد على وقف الحرب والانتقال لحالة السلام المستدام، والتي تتضمن إدارة مدنية مؤقتة لقطاع غزة، تتكون من مستقلين فلسطينيين، وانتشار قوة استقرار دولية واستكمال انسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي مما سمي الخط الأصفر، وكذلك نزع سلاح حماس، وقد أكدت قطر والأردن قبل أيام على ضرورة الانتقال لهذه المرحلة، وعدم قبول ذريعة إسرائيل بالتلكؤ في هذا الأمر بسبب جثتين ما زالتا في قطاع غزة، حرصت إسرائيل على منع حماس من القدرة على الوصول إليهما باغتيال من كانوا يقومون بحراستهما، وكذلك بتجريف المنطقة عدة مرات، لهذا الغرض، كذلك تتخذ مصر وتركيا الموقف نفسه، ويبدو أن ما أحدث الفارق بين موقفي الرعاة: أميركا من جهة والدول الثلاث من جهة أخرى، هو طبيعة قوات الاستقرار الدولية.
وحتى لا تزيد شقة الخلاف كثيراً بين تل أبيب وواشنطن، خاصة بعد أن اشترطت إسرائيل علناً، أن تحدد هي من سيشارك من الدول في هذه القوة، وأكدت على عدم السماح للقوات التركية بأن تكون من بين هذه القوات، وكذلك بعد أن اشترطت عدم السماح لقطر بالمشاركة في إعمار غزة، ونظراً إلى أن معظم الدول، خاصة الدول الثماني التي شكلت مجموعة الدول العربية الإسلامية التي التقت دونالد ترامب أواخر أيلول الماضي في نيويورك وفتحت الباب عبر ذلك اللقاء لخطته لأن ترى النور، لم تعلن حتى اللحظة استعدادها لإرسال قواتها المشاركة، وحتى بعد إصدار قرار مجلس الأمن بالخصوص، وذلك لسبب يعود إلى مهمة تلك القوة، وكذلك إلى مرجعيتها أو من يصدر لها الأوامر، فواشنطن تريد أن تكون هي صاحبة القرار والجهة التي تتحكم بمصير ومستقبل غزة، لتجعل منها مفتاحاً لإعادة ترتيب الشرق الأوسط من جديد، وفي نفس الوقت، لا تريد أن تغامر بإرسال قواتها كما فعلت في العراق وأفغانستان، أي أنها تريد قطف الثمار، فيما يتحمل الآخرون وزر احتلالها بالنيابة، بل الأسوأ القيام بمهمة «نزع سلاح المقاومة» بدلاً من إسرائيل، لذلك فإن «مربط الفرس» بات هو تشكيل هذه القوة، كذلك ليس هناك اتفاق حول الإدارة المدنية المقبلة لقطاع غزة، حيث إن موقف مصر بدرجة أساسية هو أن تكون فلسطينية وتابعة للسلطة، بينما يرى الإسرائيليون أن تكون شخصيات محلية من غزة، وبلا أي صلاحيات، بل وبرئاسة «البزنس مان» توني بلير، وجاريد كوشنر صاحب صفقة القرن.
الصراع إذاً جدي وحقيقي، وما يزيد الطين بلة، هو أن كلاً من إسرائيل وحماس، تفضلان الوضع الحالي كأسوأ الخيارين، أي إذا كان الذهاب للمرحلة التالية يعني إجبار إسرائيل على الانسحاب إلى حدود غزة قبل 7 أكتوبر، فإن إسرائيل تفضل الوضع الحالي، وحماس تفضل الوضع الحالي، وذلك حين تتأكد من أن الانتقال للمرحلة التالية يعني نزع سلاحها، وتسليم غزة لقيادة لها علاقة بالسلطة أو حتى بالجامعة العربية، أو بأي أحد، ولو خلال فترة انتقالية، تليها مرحلة إدارة السلطة لغزة، وهذا الاحتمال يدفع إسرائيل إلى منع تدحرج خطة ترامب ولو كان ثمن ذلك تعميق الخلاف مع واشنطن.
والحقيقة أن كلا الطرفين، أي إسرائيل وحماس يراهنان على عامل الوقت، بما يعني أن جميع الأطراف أو بالتحديد الرعاة أي أميركا، ومصر وقطر وتركيا، سيهبط مستوى اهتمامهم مع مرور الوقت، والجميع بمن فيهم سكان غزة سيتأقلمون مع الوضع الحالي، وإن جرى تحسن معيشي، وفشل الاحتمال الأسوأ، أي التهجير، يعني أن ما هو فوق ذلك يعد نجاحاً، ولو بنسبة 50%، أما إسرائيل فتعتبر أنها قد حققت نصف انتصار يتمثل في السيطرة على نصف مساحة القطاع، أي ما يقارب الـ 200 كم 2، مع مساحات أكثر من الأرض السورية واللبنانية، وأنها حافظت على التفوق الإقليمي ونظفت الحدود المحيطة بها من التهديد، فيما لم يبقَ أمامها سوى ثلاث سنوات، وبعدها لن تجد أميركا إلى جانبها!
