في ذكرى رحيله، يعود اسم ” ياسر عرفات” إلى الواجهة لا بوصفه شخصية سياسية مرّت في التاريخ الفلسطيني، بل باعتباره ركناً من أركان الوعي الجمعي لشعب ما زال يصنع روايته تحت النار، واسماً ارتبط باسم فلسطين. فمنذ اللحظة التي خرج فيها إلى العلن قائداً لشعب يسعى للحرية، ارتبطت صورته بفلسطين لتصبح جزءاً من الهوية الوطنية، فحمل خريطة الوطن في كوفيته، وحمل رواية وسردية شعبه في صوته، وحمل شعبه في قلبه. اليوم، ونحن نعيش ذكراه، ومع ما يتعرّض له الشعب الفلسطيني من مأساة وجودية، وحرب إبادة، تضاعفت الحاجة إلى التوقف عند إرثه وسيرته، لا باعتباره حنيناً عابراً، بل لأن غيابه كشف لنا حجم الفراغ الذي تركه وراءه. لم يكن عرفات زعيماً وُلد من رحم المؤسسات، بل من خطوط النار في عيلبون والكرامة، ومن الحصار في بيروت وطرابلس ورام الله، ومن حياة متنقلة بين المنافي والميادين. كان سياسياً لا يشبه النماذج التقليدية، وزعيماً يتقدم الصفوف ولا يكتفي بإدارتها من الخلف.
كتب الكثيرين عنه، فقال “محمود درويش” ياسر عرفات ليس شخصاً فقط، إنه ظاهرة سياسية وإنسانية لا يمكن اختزالها في شخص واحد، وهو من روى الحكاية الفلسطينية للعالموقد حمى حضور فلسطين في الوعي العالمي”، بينما وصفه قادة عالميون بـ”الثعلب السياسي” و”الداهية” و”الرئيس الذي يصعب تجاوزه”.وقد رثاه الرئيس الفرنسي”جاك شيراك” بالقول اليوم يفقد العالم رجلاً كرسّ حياته لشعبه وللسلام، فيما اعتبره الرئيس الأمريكي الأسبق “جيمي كارتر” قائداً “ترك بصمة لا يمكن تجاهلها بالشرق الأوسط”.
كان “عرفات”، يمتلك قدرة نادرة على الإمساك بناصية القرار في اللحظات المستعصية، مهندساً توازنات معقدة بين الفعل العسكري والمسار الدبلوماسي، بين الداخل الفلسطيني ومحيطه العربي والدولي. من هنا لا يُطرح اسمه اليوم بوصفه استدعاءً رومانسياً للماضي، بل لأن اللحظة الراهنة بكل تعقيداتها تكشف أهمية الدور الذي لعبه طوال أربعة عقود.
في زمن الحرب والإبادة، ومحاولات التهجير والنفي من جديد، وفي ظل انقسام ألقى بنا في غيابة الجُب، ومع تعقّد الجغرافيا السياسية الإقليمية، تتردد الأسئلة حول غياب تلك النوع من القيادة التي كانت تمسك بخيوط اللعبة رغم قسوة الظروف. وليس القصد هنا التقليل من جهد وعطاء رفاق دربه، ولا تحميلهم مسؤولية مقارنة غير عادلة مع رجل صنعته سياقات استثنائية، ولكنّ الواقع يشي بفجوات واضحة عمّقت الشعور بفقده.
مهما تعددت الآراء حول سياساته، يبقى أن ياسر عرفات جزء أصيل من ذاكرة شعب، وقد شكّل مدرسة سياسية فريدة، مدرسة تجمع بين الصلابة والمرونة، بين الكفاح والمبادرة، بين المقاومة والدبلوماسية. وها هو نوفمبر من كل عام يعيد لنا دق جرس الغياب، بأن هذا الزعيم قد رحل، لكن صورته في الوجدان الفلسطيني لم تغب. بل إن حضوره يزداد قوة كلما اشتدت المحنة، لأن الشعوب في لحظات الخطر تحتاج إلى القادة الذين يجمعون ولا يفرّقون، ويقودون ولا يُقادون، ويصنعون الأمل حتى من قلب الألم والمحن.
اختم بعد قول قليلٍ مما يستحق الكثير من القول في “ياسر عرفات”، ليس التعلّق بالماضي هو المقصود، فالماضي ذاكرة متمرّدة على النسيان، بل الهدف التذكير بأن استعادة روح القيادة التي جسدها، وروح الوحدة، والمسؤولية، والقدرة على اتخاذ القرار، أصبحت ضرورة وطنية.
فلسطين لا تحتاج نسخة مكررة منه، بل تحتاج إلى تجاوز الفراغ الذي تركه، عبر إنتاج قيادة تحمل قيمه؛ قيادة تعرف أن التاريخ لا يكتب بالمصادفات، وأن الشعوب التي تنجو هي تلك التي تتّحد حول رواية واحدة رغم اختلاف رواةها.
