موقع مقالة نت
اهم المقالات التي تهم القارئ العربي

الهامشيات الرئيسية في الرواية (أربطة) لـ (دومينيكو ستارنونه) مثالًا

0 8

أثير – الروائي الأردني جلال برجس

ليس شرطًا أن تُستلهم الموضوعات الكبرى سعيًا إلى رواية مهمة. وليس شرطًا أيضًا أن ما يراه البعض هامشيًّا هو بالفعل كذلك، وتفصله مسافة عن الموضوعات المهمة كالموت، والحرب، والانهيارات بكل أشكالها؛ فالإنسان هو الموضوعة القصوى في الأدب، وكل ما يحيط به، وما ينوء في دواخله ثيمات قابلة للكتابة المُعاينة، والمُوثقة، والُمحللة، والُمستشرفة. وإن أكثر الروايات نجاحًا وديمومة في ذاكرة القارئ ووعيه هي التي تخاطبه بفنيات استثنائية، لا تنفصل عن البعد الإنساني، فنيات غير مباشرة، بوعي رمزي كالقصيدة التي لو صرحت بما وراء ولادتها ستسقط في بئر المباشرة صاحبة العلاقة الوثقى بالوعظ الذي لا يجد طريقًا إلى مسامع الكثير.

وفي الرواية على الصعيد العالمي أمثلة كثيرة حول استثمار الهامشي سعيًا إلى مساءلة الرئيسي في حياتنا منها رواية (أربطة) للإيطالي (دمونيكو ستارنونه) والتي ترجمتها إلى العربية (أماني فوزي حبشي)، وصدرت عن دار (الكرمة) المصرية. قامت هذه الرواية في ظاهرية موضوعتها على علاقة متوترة بين زوجين (آلدو) و(فانيا)، جراء عيش (آلدو) علاقة حب مع (ليديا) الفتاة التي تصغره بأعوام، وكيف انعكست فيما بعد نتائج هذه العلاقة على بنتهما (آنا) وولدهما (ساندرو). يراوح (آلدو) بين منطقتين: الأولى الأسرة التي هشمها الروتين، والسلطوية العاطفية-بجنابيها الوجداني، والمتأذي- التي تمارسها زوجته، والثانية حياته الحرة مع (ليديا) الفتاة التي تتفجر عشقًا، وتمنحه ما يدفعه إلى الحياة والإبداع. وكيف خضع في المحصلة إلى نداءات زوجته، وعاد إلى المؤسسة الزوجية بتحفظ انعكس على طبيعة حياة العائلة. لكن علاقته مع (ليديا) عادت من جديد وبمستوى آخر من عدم الالتزام.

تخبرنا الرواية أن مؤسسة الزواج لم تنهار، وأن العائلة بفضل الزوجة (فانيا) بقيت كما هي. لكن هناك فيما وراء ظاهرية موضوعة الرواية، وفي مساحة تأويلها ما هو أبعد وأدق من ذلك؛ إذ إنها تقارب أثر الزمن على الإنسان، وكيف تحدث التبدلات في مراحله الثلاث؛ فالرواية تُحكى من خلال ثلاثة فصول عناوينها: الكتاب الأول، الكتاب الثاني، الكتاب الثالث، وهي معاينة للأزمة من ثلاث جهات (جهة الزوجة فانيا، وجهة الزوج آلدو، وجهة الابن والبنت ساندرو، وآنا) .

إن المقاربة لأثر الزمن في هذه الرواية تأتي من خلال مساءلة فكرة الأربطة بين أفراد العائلة، وهل هي تلك التي يمكنها الاستمرار ببناء البيت بمفهوم (هيغل)، أم أنها تلك التي أشار إليها غلافا الطبعتين العربية، والإيطالية وهي تتجسد بأربطة بين حذاءين وبالتالي إعاقة لفكرة المشي؛ إذ يسعى (ستارنونه) في روايته هذه إلى وضع القارئ أمام حقيقتين في زمنين مختلفين في مستوى لافت من الصراع بين الرتابة -التي يراها في مؤسسة العائلة- وبين الخروج على الرتابة في علاقته بـ (ليديا). ومع هذين المفهومين لم يكن بطبيعة الحال للزمن أن يتوقف؛ إذ نجد أثره على الضحية (فانيا) -بمفهوم الرواية- وعلى الجاني (آلدو)، وعلى ابنهما وبنتهما؛ فكل منهم تجاوز مستوياته في التعاطي مع فكرته عن الحياة إلى مستوى آخر مرتبط بالأول، وفي الوقت ذاته مغاير له. عبر هذه الرواية التي وصفت بأنها (حكاية محكمة عن مجزرة منزلية) -وهذا يمكن أن يكون وصفًا دقيقًا إذا ما أسقطناه على الحياة برمتها-يتطرق (ستارنونه) إلى حيرة الآدمي في تبدل قناعاته فيما أراد، وبالتالي هل يمكن الاستمرار في طريقه، أم يذهب نحو طريق أخرى بالطبع لها ضرائبها الوخيمة.
تنتهي الرواية بنيّة لم تجد طريقها إلى التنفيذ من قبل (ساندرو) و (آنا) ببيع البيت الذي سطى عليه اللصوص، وتركوه في فوضى عارمة فُضحت فيه ذكريات عجوزين تجاوزا السبعين من عمرهما، لكنهما لم يفعلا ذلك حين وجدا نفسيهما نتيجة لهذه العلاقة المهشمة في باطنها، والمتماسكة في ظاهرها. إن فكرة السطو هنا ليس حادثة عرضية، أو مجانية في السياق السردي، إنما نبش لجدوى البيت الذي أقيم على أسس ملتبسة، وهذا النبش يضع (آلدو) و(فانيا) أمام إرث من الذكريات يتيح لهما إطلاق الأسئلة حيال جدوى ما مضى، وحيال المستقبل الذي تمثل في ابنهما، وبنتهما. وكأن (ستارنونة) في روايته هذه يحدق بالمحطة التي وصل إليها عبر مشيه خلال ما مضى له من سنين. إنها معاينة ظاهرية لانعكاس الزمن على دواخل الإنسان.

استخدم (دومينيكو ستارنونه) في روايته (أربطة) الإيحاء عبر الهامشيات، للدلالة على ما هو رئيسي في حياتنا. وإن هذا الأسلوب، والوعي الروائي صاحب المساحة الشاسعة من التأويل، وإمكانية القارئ من بناء حكايته الخاصة، هو الذي يجذر الفن الروائي الحديث، ويجعله على علاقة قوية بالقارئ الذي يعاني في هذه المرحلة الملتبسة من حياتنا حيرات كثيرة، وضياع أمام وهم الحقيقة، وحقيقة الوهم.

اضف تعليق