ابن عربي وعجائبية التخييل العرفاني
أثير – الروائي العربي واسيني الأعرج
كلما تعلق الأمر بالتخييل، أصبح التفكير فيه معقدا. إما أن يتحول إلى سلسلة من المعادلات الرياضية المرتبطة أكثر بالمخ وتحولاته والخلايا العصبية ودورها في نقل المعلومات وتنظيمها، أو يصبح سلسلة من الإيهامات التي يصعب القبض عليها معرفيا. مع أن النصوص السردية العربية لها مسالكها الواضحة في هذا الموضوع إذ لا يمكنها أن تنجز شيئا له قيمة خارج هذا العالم الذي يبعدها عن تسطيحات الحاضر ولعبة الانعكاس الضعيفة. لا يخرج تخييل ابن عربي الغني، المحاذي لـ”الجنون” حيث لا حد لامتداداته التي قادته نحو العجائبية، عن التخييل الذي انتهجه الصوفيون في اقترابهم من منتهى العرفان الذي ينشدونه باختبار حواسهم، أي الذهاب بالأشياء نحو أقاصيها، بدون حدود، لأن اللغة تقوم مقام محو هذا الحدود.
واسم “ابن عربي”، يكفي وحده لوضع معارفنا مثار تساؤل وجدل، والاستعداد للدخول في دهاليز المعرفة والتأويلات التي لا تنتهي في توليد المعاني، حيث اللغة لا تعني دوما ما تعنيه، وما تقوله من معارف متفق عليها بسبب التعامل والتداول. اللغة تصبح مثقلة بالافتراضات، غير تلك التي تعودت عليها. فهذه اللغة تحمل في جوهرها الصوفي تلوينات تحتية كثيرة لا تتأتى لغير العارفين باللغة وامتداداتها، وقوتها وتمايزها.
يبدو أن نص ابن عربي التخيُّلي: الإسرا إلى المقام الأسرى، يقوم على هذه المزاوجة اللغوية المعتاد/ التأويلي، وهي مصدر صعوبته النسبية وقوة إدهاشه في العلاقة بين النص والقارئ الفعال لغويا وتأويليا.
جاءت فاتحة النص في شكل رسالة وكأنها موجهة لشخص، أو لقوة ما، أو للصوفيين الذين ينتظرون عودته، أو لمتلق مطلق ينتظرها، شارحا فيها ما غاب عنه، ومجيبا عن أسئلة ظلت عالقة في ذهنه وفي أذهان كل من ساروا على مذهبه، مبينا الهدف المرجو منذ اللحظة الأولى من هذا الإسراء، ومن رسالته أو تدوين رؤاه: “أما بعد… فإني قصدتُ، معاشر الصوفية، أهل المعارج العقلية، والمقامات الروحانية والأسرار الإلهية، والمراتب العلية القدسية، في هذا الكتاب المنمق الأبواب، المترجم بكتاب: “الإسرا إلى المقام الأسرى” اختصار ترتيب الرحلة من العالم الكوني، إلى الموقف الإلّي (الإلهي)، وبينت فيه كيف ينكشف اللباب، بتجريد الأثواب لأولي البصائر والألباب… وطريق سماوات معنى، لا مغنى.”
يعتبر نص “الإسرا إلى المقام الأسرى”، من أكثر النصوص بناء، عمران لغوي يتصف بالمتانة، والتمادي التخييلي. هناك منطق مبطن في البناء النصي وتراتبية السماوات، يمنحنا فرصا عقلانية للفهم. وهو بهذا يبدو أقل تعقيدا من “الفتوحات المكية” أو “فصوص الحكم” أو “رسائل ابن عربي” التي تبدو نصوصا مغلقة تأملية، فلسفية. ما يخفف أكثر من ثقل هذا النص العرفاني، والمعرفي أيضا، كونه نصا حكائيا قصصيا بني على متخيل نعرفه سلفا: المعراج الرسولي.
اعتمد ابن عربي على فكرة الرحلة في معناها الدارج والعام، أو بشكل أدق، الارتحال الذهني (نحو العوالم السماوية، في شكل رؤيا على العكس من المعراج الرسولي الذي يؤمن ابن غربي أنه كان معراجا جسديا وليس فقط روحيا، لأنه معراج تشريعي، مثل قضية عدد الصلوات اليومية) وهو ما يوفر كل دلائل العجائبية، إذ كيف للعقل المحض، المرتبط بسلسلة من الصفات الثابتة فيه، تجريبي في تحاليله، أن يصدّق هذا الارتحال الروحي الذي لا يخضع للمسبقات التي بنى عليها النقد الأوروبي مشروعه، دون أن يدرج النص في نطاق العجائبية التي ترتبط بالنصوص الخرافية كتلك التي درسها فلاديمير بروب في كتابه عن الحكاية الخرافية، وخرج من ورائها ب 31 وظيفة تحكم قانون النص الحكائي، والتي تبدأ من لحظة الخروج، أو الإبعاد، وتنتهي بالزواج والصعود على سدة الحكم.
منطق نص ابن عربي ليس بعيدا عن هذا. فهو يبدأ أيضا بلحظة الخروج التي تتم في الحلم والارتحال نحو السماوات، وتنتهي بالإجابة عن الأسئلة التي ارتحل من أجلها. لكن هذا الأفق الغرائبي في النص مدعاة للكثير من الأسئلة التي تحتاج إلى جواب قبل الإقدام على التحليل. هناك أمر يجب أخذه بعين الاعتبار من حيث المقروئية والخصوصية الثقافية. لأن الغرائبي لا يمكن فصله عن المتلقي. ما يصنفه العقل النقدي الغربي غرائبيا أو عجائبيا، قد لا يُرى بالطريقة نفسها عند أمم أخرى سادت فيها الحكاية كقوة توازن حياتي، كما في إفريقيا وآسيا. ما هو عجائبي في الثقافات الأوروبية مثلا ليس كذلك، بالضرورة، في الثقافة العربية الإسلامية، وإن ظلت بنية النص أدواتيا، هي نفسها؟
إن قارئا مشبعا بثقافة الإسراء والمعراج، لا يرى مطلقا أية غرابة في أن يرتحل الإنسان روحيا نحو السماوات العليا. وقد جعل المعراج الرسولي نحو السماوات العليا هذا النوع من الارتحال مقبولا ليس عرفانيا فقط ولكن أيضا عقليا، بسبب قناعة دينية مسبقة. ولا يدهشه الفعل من حيث الجوهر، ولا يصطدم بشرطيات العقل المادية. الأمر في النهاية، مرتبط بالقدرات الإلهية التي يمنحها لمن انتخبهم واصطفاهم ليقوموا بما لا يستطيع العادي القيام به.
نص ابن عربي الذي يلعب فيه الفعل التخييلي دورا حاسما، يندرج ضمن هذا الأفق من الفهم والتحليل. فقد ذهب فيه إلى مداه. والصيغة الحلمية فيه خيار تقني يسمح للحركة بأن تكون حرة وغير محصورة بالأمكنة والأزمنة. ويصبح كل شيء ممكنا، ليتمادى عميقا بلا حواجز، ويشلّ من لا يفرق بين العرفان والعقل والكفر. حتى الذين كفّروه، لم يجدوا منفذا لاتهامه بشكل مطلق ومنهم ابن تيمية. فمهما كانت درجة الحرية في التخييل في نص ابن عربي “الإسرا إلى المقام الأسرى”، فقد ظل السرد الحكائي كله والموقف العرفاني وتخطي سدرة المنتهى، مؤطرا بالمعراج الرسولي الذي شكل سندا تناصيا وإيمانيا مهما. فقد سلك في معراجه الخطوات نفسها، مع انزياحات قليلة، طبيعية تحدث عندما يتقطع نص لاحق بنص سابق، فهو يعتمده كأرضية ولا يكرره.
في السماء الأولى التقى الرسول الأكرم بآدم، وفي الثانية بعيسى ويحيى، وفي الثالثة بيوسف، وفي الرابعة بإدريس، وفي الخامسة بهارون، وفي السادسة بموسى، وفي السابعة رأى إبراهيم عليه السلام مسندا رأسه إلى البيت المعمور. والبيت المعمور في السماء، كما الكعبة لسكان الأرض، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، يصلون فيه، ثم يخرجون ولا يعودون. ولم يخرج ابن عربي عن هذه التقسيمات إلا في اللغة والأسئلة والمنتهى الذي يتوقف عند النبي عند حدود سدرة المنتهى، وهو ما لم يحدث مع ابن عربي. وقد قاد التمادي التخييلي ابن عربي نحو المعميات، أي نحو عناصر الوجود غير القابلة للشرح والفهم لأنها ليست من سلطان البشر وآلة العقل التي تختبر جدوى الظنون والافتراضات. حتى العرفان الروحي، يخفق في ارتيادها وتفسيرها لأنها فوق طاقته مهما عظمت، ومهما تجلت في القدرة على الإبداع والتخيل. لهذا نرى في العتبة الخامسة من المعراج، أن محي الدين ابن عربي يعود إلى رشده، يستيقظ من غفوته ورؤاه. هناك معميات أكبر من سلطان العقل. تنتهي الرحلة الصوفية للسالك بمختلف مراتبها من لحظة التخلص من التراب، والهواء، والماء إلى مغادرته نحو السماء، نحو عالم آخر هو عالم الصوفيين والأولياء وهم يتقربون من الملك الأعلى، ويفكون الطلاسم المبهمة من قاب قوسين، إلى أدنى، إلى اللوح المحفوظ، إلى حضرة أوحى، وكل حضرة هي وقفة لمعرفة قوة الآخر الذي فينا، ومعرفة فينا فيه، لفهم النفس في لحظات غيها واشتعالها ورغبتها في معرفة سر الكون، والتخلص من ثقل الأسئلة والشكوك، والدخول في الصفاء المنشود، لحظة النور.