يوم الاستقلال قلقُ الوجود وشكوك البقاء ..د. مصطفى يوسف اللداوي
حاول الكيان الصهيوني في الذكرى الخامسة والسبعين لما يسمى بـــ”يوم الاستقلال” استعراض قوته، وإبراز تفوقه، والكشف عن أسلحته، وإظهار قدراته القتالية العالية وإمكانياته الهجومية المتطورة، في ظل أجواء عصيبة لا تقوى على إخفاء القلق، وتبديد الخوف، وطمس الحقائق الجديدة، وإلغاء التحديات المتزايدة، ولا تتمكن من طمأنة المستوطنين الذين بات ينتابهم قلقٌ شديدٌ على مستقبل وجودهم، ومدى بقائهم في “أرض الميعاد”، التي كانوا يظنون أنها ستكون لهم إلى الأبد أرض المن والسلوى وبلاد والسمن والعسل، يسودها الأمن وتتمتع بالسلام، لكنهم وبعد مضي خمسٍ وسبعين سنة لم يتمكنوا من جلب الأمن لهم، ولا خلق الاستقرار لكيانهم، وعجزوا عن رد القتل عن أنفسهم، ودفع الخوف عنهم.
حاول الكيان الصهيوني المهزوزة حكومته والمرتبك أعضاؤها، والمتورط رئيسها، والمرتعش جيشه والعاجزة قيادته، أن يرسل من خلال استعراض القوة الجوية والكشف عن الأسلحة المدمرة وتقنيات الحرب الحديثة، مجموعة من الرسائل المتعددة الاتجاهات والمختلفة العناوين، ظاناً أنه يستطيع من خلال الاستعراضات البهلوانية والأسلحة الخلبية ومجموعات المحتفلين المتناثرة، التي اشتبكت فيما بينها، وتبادلت السباب والشتائم، ورددت شعاراتٍ متناقضة، أن يذر الرماد في العيون، وأن يعميها عن رؤية الحقائق وقراءة الواقع، وأن يخدع الجميع بقوته وقدرته، وتفوقه وتطوره، وأن يظهر ثقته بنفسه واطمئنانه إلى إمكانياته.
ربما كانت رسالته الأولى موجهة إلى مستوطنيه الذين باتوا يظهرون خوفهم، ولا يقوون على الوقوف على أقدامهم، ولا تشجعهم الظروف الجديدة على الاستمرار في مشروعهم والثبات في مستوطناتهم، فالتحديات باتت أكثر من قدرتهم على الإحساس بالأمن والاستقرار والاستمتاع بالدعة والسلام، فالخطوب باتت تحدق بهم من الداخل والخارج، وتهدد وجودهم ووحدتهم، فلا استقرار سياسي يطمئنهم، ولا حكومة عاقلة ترشدهم، ولا رئيس حكومةٍ صادقٍ يقودهم، ولا جيش متفوق يطمئنهم، ولا رخاء اقتصادي يغريهم أو استقرار مالي يشجعهم، الأمر الذي أخذ يجعلهم يشكون في أنفسهم، ويقلقون على مستقبلهم، ويخشون على مصيرهم وعاقبة أمرهم.
لكن المستوطنين الإسرائيليين الذين تفضحهم الدراسات والاحصائيات، وتكشف عن حقيقتهم الاستبيانات والاستقراءات، تؤكد أن قرابة مليون مستوطنٍ منهم يعيشون خارج الكيان، وأن الكثير منهم لا يفكرون في العودة، ولا يخططون للمستقبل في كيانهم، ولا يطمئنون فيه على مستقبل أبنائهم، بل يفعلون جنسياتهم الأصلية، ويبنون المشاريع في بلادهم الأم التي منها هاجروا وآباؤهم، وهذا الأمر لا يقتصر على المستوطنين فقط، بل يمتد ويطال قادتهم وزعماءهم الحزبيين والعسكريين والسياسيين، ولعل رئيس حكومتهم الأسبق نفتالي بينت أوضح مثالٍ على ظاهرة فقدان الثقة في كيانهم، فهو أول الراحلين عملاً واستثماراً وربما استقراراً لعائلته في الولايات المتحدة الأمريكية التي منها جاء إلى فلسطين غازياً ومستوطناً.
كما تظهر الدراسات أن ملياراتٍ من الدولارات هربت من الأسواق التجارية ومن البنوك وبيوت المال، وأن مئات المشاريع الاقتصادية قد أغلقت، والكثير من البرامج والخطط قد جمدت، وأن البنوك باتت تشتكي وتظهر قلقها ولا تخفي مخاوفها من تداعيات الأزمات العديدة التي تعصف بالكيان، فهروب الرساميل الكبرى، ورحيل كبار المستثمرين، وتفكك الشركات المتعددة الجنسيات، والمخاوف المتزايدة من انهيار النظام القضائي وضعف الرقابة الاقتصادية مقابل تغول السياسيين، برلماناً وأحزاباً، بات رعباً يلاحق الإسرائيليين عموماً، ويقلق أرباب المشروع الصهيوني، فرأس المال اليهودي الذي لعب دوراً رئيساً في حياة الإسرائيليين، هو أحد أهم ركائز المشروع الصهيوني.
أما رسالة يوم الاستقلال الإسرائيلي الأخرى فقد كانت موجهة للمحيط القريب والجوار البعيد، ولقوى المقاومة الفلسطينية واللبنانية والعربية عموماً، بقصد إرهابها وتخويفها، وردعها وصدها، ودفعها لليأس والقنوط، وعدم التفكير في مقاومة كيانهم وتهديده، فقد أرادوا القول لهم أن كيانهم أقوى من التهديد، وأثبت من المقاومة، وأعمق جذوراً في الأرض من أن تقتلعه قوة أو تفكك بنيانه دولة أو جماعة.
وأن مناؤيه يخسرون أمامه، ولا يستطيعون مواجهته، وأنهم سيدفعون الكثير من حياتهم ومن مستقبل أجيالهم، قبل أن يحققوا أهدافهم أو يصلوا إلى غاياتهم، ولهذا فإن عليهم أن يكونوا عقلاء منطقيين، يحكمهم العقل ويضبطهم الرشد، وتسيرهم المصلحة وتقودهم المنفعة، ويسلمون بالأمر الواقع ويقبلون بالكيان ويعترفون بشرعيته، ولا يعاندون الواقع ولا يواجهون القوة، وإلا فإنهم سيخسرون ما بقي بين أيديهم، وسيحرمون مما تعدهم به حكوماته وتمنحه لهم سلطاته.
لا يبدو أن احتفالات يوم الاستقلال المبالغ فيها، ومظاهر القوة الزائفة، واستعراضات العظمة الكرتونية، تستطيع أن تطمئن الإسرائيليين وتريحهم، أو تتمكن من تبديد خوفهم واستكانة نفوسهم، أو أنها ترقى لأن تهدد المقاومة وتضعفها، أو تخيفها وتربكها، أو تكوي وعيها وترعبها، فهذه الرسائل قد فقدت مضمونها وأخطأت عنوانها، وهي لن تفي بالغرض ولن تؤدي المطلوب، ولعلها حققت نتائج مغايرة وأخرى غير مرجوة، فلا كيانهم استقر، ولا مستوطنوهم أمنوا، ولا حلفاؤهم عليهم اطمأنوا، ولا المقاومة خافت، ولا أصحاب الأرض وحملة السلاح، والثابتون في الأرض والمتمسكون بالحق، قد جبنوا وخافوا، وسلموا واعترفوا، بل خسر الأوائل وانكفأوا، وتراجعوا وضعفوا، ونهض الأواخر واستعلوا، وكسبوا وتفوقوا، وتضاعفت قوتهم وتعمقت مقاومتهم، واتحدت ساحاتهم واتفقت جبهاتهم.
بيروت في 28/4/2023
[email protected]