موقع مقالة نت
اهم المقالات التي تهم القارئ العربي

السودان وإسرائيل… من الفرات للنيل..رامي منصور

0 15

في مسلسل “ابتسم أيها الجنرال” (إنتاج شركة ميتافورا – رمضان 2023)، يخوض رئيس دولة “الفرات”، فرات، صراعًا شرسًا مع شقيقه الأصغر، عاصي، على رأس السلطة، إذ يعتبر عاصي أن تولّي شقيقه القيادة ناتجة عن معطى بيولوجيّ، بأن والدته أنجبته قبله لا أكثر، وأنه الأحقّ بالسّلطة، وهو الممسِك بالجيش وبحرس الرئيس.

على وقع هذا الصراع، يرتكب نظام الفرات الجرائم، وينفّذ الاغتيالات، ويقع في فضيحة كبيرة في أعقاب تسريب جنرال سابق شريطا مصوّرًا يروي فيه قيام النظام بتجارب للأسلحة على معتقلين، صغارًا وكبارًا، ما يعرّضه لخطر عقوبات دوليّة، ومحاكمات، وحصار غربيّ بعد انفتاح. ويكاد عاصي يطيح بشقيقه فرات من رأس السّلطة بانقلاب عسكريّ، بعدما وصل الصراع ذروته، بحيث بات بقاء أحدهما ينفي وجود الآخر، أي إنه صراع صفريّ، يحسمه فرات سياسيًّا بالـ”ضربة القاضية”، بالتوجّه لإسرائيل والتوصل لاتفاق سرّيّ، يُبقي الحدود القائمة على ما هي عليه (تنازُل عن أراض)، والتعهّد بعدم السماح باستخدام أراضي دولة الفرات لعمليات معادية لإسرائيل. في المقابل، تضمن إسرائيل بقاء فرات في رأس السّلطة، وتحيّد الضّغط الغربيّ عنه، وبذلك؛ يخسر شقيقه دعْم فرنسا، وتنهار كل مخطّطاته.

كانت “الضربة القاضية” أو “ضربة المعلم”، لجوء فرات لـ”العدوّ الإسرائيليّ” لإنقاذه من شقيقه والغرب، وتقديمه التنازلات رغم استمراره في تكرار الشعارات بتحرير الأرض، والسيادة وهلمّ جرًّا؛ هذا ليس من نسج الخيال، بل إنه واقع حقيقيّ مارسه حكّام وسياسيّون عرب، منذ ما قبل استقلال الدول العربيّة وما بعدها، لاعتقادهم مرّةً بأن إسرائيل قادرة على توفير الشّرعيّة لهم في الغرب: بريطانيا وفرنسا، ولاحقًا الولايات المتحدة، ومرةً ثانية؛ لاعتقادهم بأنها قادرة على توفير الدعم الماليّ، لإنقاذ أنظمتهم من فشل سياساتهم الاقتصاديّة، ومرةً ثالثة في مواجهة أنظمة عربيّة مثلما حصل في السودان، بعد الاستقلال في الخمسينيّات، ولجوء نظام حزب الأمّة لإسرائيل لمواجهة مصر الناصريّة، ولاحقًا في السبعينيّات، حينما أقام نظام النميري علاقات وطيدة مع إسرائيل لحفظ نظامه، وأقام قاعدة للموساد في الخرطوم، وسمح بنقل يهود الفلاشا لإسرائيل عبر السودان، وأتاح لإسرائيل إقامة معسكرات ومخازن أسلحة، لتدريب قوى إيرانيّة معارضة لنظام الخميني. وانقطعت هذه العلاقات في أواخر الثمانينيّات مع سقوط النميري، وصعود عمر البشير للحُكم مدعومًا من القوى الإسلاميّة.

لكنّ البشير ذاته، لم يشذّ لاحقًا عن سلوك سابقيه؛ إذ إنه ومع تأزُّم نظامه وملاحقته دوليًّا، لارتكابه جرائم حرب، أجرى اتصالا هاتفيًّا مباشرًا مع مبعوث نتنياهو للعالم العربيّ وإفريقيا، الملقّب بـ”معوز”، وذلك في كانون الثاني/ يناير 2019، أي قبل سقوطه بفترة وجيزة، واتفق الاثنان على أن يكون رئيس المخابرات السودانيّة حينها، صلاح قوش، قناة الاتصال بينهما. و”معوز” هذا ليس شخصيّة دبلوماسيّة، واسمه رونين ليفي ويتولى حاليًّا إدارة وزارة الخارجيّة، بل استعاره رئيس مجلس الأمن القوميّ حينها من “الشاباك”، وأوكله مهمة فتح قنوات اتّصال مع دول عربيّة وإفريقيّة مثل السودان. ودفَع البشير مقابل ذلك ثمن تخلّيه عن دعم إيران التي كان تواجدها في السودان يقلق إسرائيل، خصوصًا في ما يتعلّق بنقل الأسلحة لفصائل غزة.

وفي أواخر فترة حُكم البشير، سمح قوش لطائرة نتنياهو بعبور الأجواء السودانيّة خلال عودته من تشاد، لكنّ كلّ ذلك لم يسعف حُكم البشير، الذي سقط بعد انتفاضة شعبيّة مدنيّة، وتخلّي العسكر عنه، ويبدو أن العلاقة مع إسرائيل وأزمة الأنظمة هي الثابت، بينما الحاكم متحوِّل، فالبداية كانت مع صادق المهدي (حزب الأمّة) والنميري، ثم البشير، وأخيرًا البرهان ودقلو (حميدتي).

ويتحدّث الإعلام الإسرائيليّ عن أنّ وزارة الخارجيّة تتولّى الاتصال بالبرهان، فيما يتولّى الموساد العلاقة مع حميدتي، أي كأنّهما كيانان منفصلان، وليسا حاكميْن للسودان فعليًّا، فهما رئيس مجلس انتقاليّ ونائبه، وذلك قبل الصراع الحاليّ. وقد فاوض البرهان إسرائيل على التطبيع مقابل أمرين: إخراج السودان من القائمة الأميركيّة للدول الراعية للإرهاب، وعلى ضمان قروض ومساعدات مالية أميركيّة تغطّي الإمارات جزءًا منها، بالإضافة إلى مساعدات غذائيّة وصحيّة. وقد يصلُح هذا السلوك لعضو كنيست من “شاس”، أو القائمة الموحّدة، يريد دعم الحكومة مقابل فتات، لمنح الشرعيّة لقراره.

ليس بالضرورة أن تنحاز إسرائيل لأحد طرفيّ الصراع الحاليّ، فهي بالتأكيد لا تريد أن تتورّط بدعم ميليشيا مثل قوّات “الدعم السريع” بقيادة حميدتي، واسمها الأصليّ الجنجاويد، وقد ارتكبت ولا تزال ترتكب جرائم خطيرة ضدّ الإنسانيّة، من القتل الجماعيّ والعشوائيّ إلى الاغتصاب والتجارة بالبشر. وليس من مصلحتها كذلك أن يخرج الجيش السودانيّ منتصرًا على حليف حليفتها، الإمارات.

الأمر المؤكَّد أنّها تريد إنجاز التطبيع مع السودان، قبل ما كان يُفترض أن يكون نقل الحُكم للمدنيّين، أي حسْم ملفّ التطبيع في فترة حُكم العسكر، لإدراكها أنه في ظلّ حُكم مدنيّ ديمقراطيّ، لن يسهل التطبيع، بل إنّ ذلك قد يؤجّله إلى أجل غير مسمّى، لأنّ الرأي العامّ السودانيّ منحاز لفلسطين.

أمّا مطامع إسرائيل في السودان، فهي واضحة، نظرا لموقع هذا البلد الإستراتيجيّ، الذي يفتح أمام إسرائيل نفوذًا على البحر الأحمر، والقارّة الإفريقيّة، والأراضي الخصبة بالموارد، وأخيرًا تكون قد أقامت لها قاعدة إستراتيجيّة في الحديقة الخلفيّة لمصر، وفي الساحل الموازي لأكبر دولة عربيّة في الخليج العربيّ؛ السعوديّة.

مكيافيلي… تصحيح غُبن ونقاش مفتوح

تبدأ كلّ حلقة من مسلسل “ابتسم أيها الجنرال” باقتباس من كتاب “الأمير” لمكيافيلي، ويظهر فرات في أحد المشاهد، وهو يقرأ كتاب “فنّ الحرب”. وارتبط كتاب “الأمير” ذائع الصيت، بمقولة كأنّها تلخّصه، وهي: “الغاية تبرِّر الوسيلة”، وقد تسبَّب ذلك بغبن كبير تجاه الكاتب، كأنه ينظّر للانتهازيّة. كما أن ميكافيلي قد كتب هذا الكتيّب في مرحلة متقدّمة من حياته، وكتب غيره من الكتب والأبحاث، التي قد تكون أكثر أهميّة، مثل كتابه عن الجمهوريّة الرومانيّة، لكنّ خلاصة فِكره بعد سنوات من تعرُّض موطنه إيطاليا (غير الموحَّدة) للغزو والانقلابات، بأنّ الدولة أو الجمهوريّة الناجحة ذات السيادة، لا يمكن أن تقوم على جيش من المرتزقة، بل على جيش من أهلها، وحتّى يكون هؤلاء على استعداد للتضحية والولاء لها، فلا بدّ من توفير ثقافة سياسيّة وتنوّع وتوزيع السّلطات (فصل السلطات إلى حدّ كبير، بلغة العلوم السياسيّة راهنًا)، أي يربط السيادة والاستقلال والتمدُّد بالحقوق المدنيّة بلغة عصرنا. والنقاش الأكاديميّ حول فِكر ميكيافيلي لا يزال مستمرًّا، خصوصًا أنه يعتبر جمهوريّة روما، النموذج الأفضل والأنجح للحُكم، وليس حُكم الفرد الطاغية، خلافا لما قد يُفهم من كتاب “الأمير”. وهو يرى في التنوّع الداخليّ في روما، مصدر إثراء للثقافة السياسيّة والمدنيّة التي تعزّز الجمهوريّة، وليس العكس.

يبدو أنّ فرات، الطاغيّة المتخيَّل، مثل عدد من الحكّام يقرأ الكتاب الخاطئ، يقرأ “فنّ الحرب” و”الأمير”، بدلا من “نقاشات حول الكتب العشرة الأولى لتيتوس ليفيوس” (أو “مطارحات مكيافيلي”) (The Discourses on the First Ten Books of Titus Livius) عن الجمهوريّة الرومانيّة.

اضف تعليق