قراءة لـ “أثير” في “أيّها الوطن الشاعري”
أثير- مكتب أثير في تونس
قراءة: محمد الهادي الجزيري
من الكتب القيّمة التي خرجت بها من معرض الكتاب الدولي بتونس ..وقد أهداها لي الصديق الشاعر الدكتور عارف الساعدي ..بمناسبة إشرافه على الوفد العراقي الممثّل للعراق.. كضيف شرف في هذه الدورة المنقضية ..، كتاب لشاعر رحل مبكّرا منذ أربعين سنة ..وترك لنا هذا الفيض الشعري ” أيّها الوطن الشاعري ” ، واسمه صاحب الشاهر وقد تقدّمت دار الشؤون الثقافية العامة بالعراق بإعادة طباعة هذا المتن ..، ويُعدّ هذا الإنجاز جزءا من الوفاء لطاقة شعرية غادرتنا مبكّرا ..ثمّ هذا يدخل في باب الإيمان بهذا الصوت الشعري المؤثر والفاعل ..ونحن نبارك هذا العمل المقدَّم لكلّ محبي الشعر ….
” مرشحّة هذه الروح للانتصار
مرشحّة للتساؤل عند الظهيرة :
أيّ الطريقين أهوى؟
وأيّ المزامير لا يستجيب الفراغ لها ؟
وهل تستطيع النجوم مغادرة الزرقة المستحبّة ؟
هل أستطيع التفاؤل ؟
أشعر إنّي هنا
أنتمي للسماء البعيدة..
من أشعل الحبّ فيّ ؟
ومن أوجع القلبَ ؟ ”
في نصّ تقديميّ عميق، يتصدّى الدكتور عمار المسعودي لمدوّنة الشاعر الراحل، ويمهر نصّه ب ” الهرب من منفى الواقع إلى جنون المتخيّل ” ، ويغوص فيه باحثا عن آثار الذات الشاعرة في ما خلّفته من نصوص جُمعت في كتاب ” أيها الوطن الشاعري “وممّا قاله وما حبّره في هذا النصّ القيّم :
” في نصوص الشاهر، تبدأ مهمة الشعري في تسجيل الوطن شخصا هاربا في سجلات نفوس الشاعر الحائلة مثل وجنتين لوّحتهما الشمس، وهي تستحضر مفازة وصحراء وكثبانا ورحلة في المجهول، مع ما يرافق كلّ ذلك من جسد الشاعر الذي يسّاقط منهارا في استشراف راء يطلق شفراته الغامضة…
ولكي يستكمل استشرافاته بمحن قادمة، وبموت أثيل وأصيل قادم، نجده مثلما صوفي يلوذ بكهف الكلمات البعيدة ..يقول :
بين مقاهي الليل وبين الفصل الأوّل من مأساة ..
الموت وقوفا ..
أنسى وأكابر لكن يدي تبقى مشلولة من جرّاء العشق..
فألقاك معي ..أسكن في عينيك قليلا..
أتوحّد فيكِ.. ونغدو وطنا ”
تبدأ السباحة في متن هذا الشاعر ..فتغوص أكثر في موجة هادرة، اسمعوه كيف يتساءل أو كيف يسأل نفسه بكلّ براءة طفل أو بذكاء ذئب أهلي ..يريد أن يفهم العالم المحيط به :
” قد تضيق الحديقة بالجالسين إليها
وبالطارئين عليها
قد تضيق القصيدة
إنّ النساء الجميلات يحلمن بالياسمين
فهل يحلمُ الياسمين بهنّ ؟ ”
وتتواصل السباحة الحرّة في نصوص صاحب الشاهر ..ففي كتابه الوحيد الذي جمعته دار الشؤون الثقافية بالعراق ..شلال وسيل من الشعر الصافي ..، يُغرق كلّ من يخوض فيه ولا يبحث عن حبل نجاة بل يرسب حتّى يختفي كلّه ..، هذا شاعر غادرنا مبكّرا ولم يعبأ به قدره ..ولكنّه كتب كلّ ما يستطيع ..، من مدوّنته الوحيدة نقتطف هذا الفيض :
”
ألفتُ الدروب التي أوصلتني إليك
صلبتُ أمامك طفلا من الألم المستطاب
صرختُ.. أعرْني يديكِ
أعرني خصوصية الحبّ
إنّ المواعيد حافية القدمين تنام وتسهر عندي
وحافية القدمين ..تدور ..تراقص ساحات بغداد واحدة بعد أخرى
تكون المدينة ساقية للتسكّع
منها يجيء النعاس لذيذا
ومنها نجيء
نغادر مثل الحدائق أسوارنا
يكون المدى سلما للبكاءْ ”
حين نقرأ سيرته الذاتية ..، نعرف أنّه ولد سنة 1953 بإحدى نواحي مدينة كربلاء ..، وقد زاول تعليمه الابتدائي والثانوي في مدينته ، ثمّ التحق بكلّية التربية في جامعة بغداد وتتخرّج منها يلي ذلك أنّه عمل مدرّسا بالمدارس الثانوية ..، وقد نشر أشعاره الأولى على صفحات مجلّة الكلمة النجفية في سبعينات القرن الماضي ..، أمّا وفاته رحمه الله ..فكانت نتيجة حادث سير أثناء عودته من إحدى معسكرات الحرب العراقية الإيرانية سنة 1982 ..، وقد انتقيت لخاتمة مقالي قصيدة بعنوان ” الأغنية الأخيرة “، فكأنّه يرى نهايته المحتومة والمحزنة ..ليرحم الله الشاعر صاحب الشاهر ..وتلك هي الحياة :
” كانَ يؤالف بين خرير الماء وبين نشيجهْ
وبرغبة ظلّ منسجم الأبعادْ
ترك الخيط طليقا
ثمّ تغنّى:
يا ليل ترفّقْ
يا ليل حنانيك أرقتَ دموعي
وأنا ظمأ أبيضُ
قد يشربني النخل نبيذا
لكنّي أبدا..
أبدا …أولدُ في رئة الينبوعِ