السرديّة الفلسطينيّة تغلّبت، ربّما بالضربة القاضية، على الرواية الإسرائيليّة منذ بدء العدوان الحاليّ ضدّ قطاع غزّة، وأكبر دليلٍ على ذلك، أنّه بعد حوالي 8 أشهرٍ من بدء الهجوم الوحشيّ والبربريّ، عادت القضية الفلسطينيّة، بفضل المُقاومة، لتحتّل رأس الأجندة العالميّة، ومن نوافل القول إنّ أفضل السلاح لتوجيه الضربات النفسيّة للعدوّ هو الحرب النفسيّة، وأنّ أعظم درجات المهارة هي تحطيم مقاومة العدوّ دون القتال.
 كمل أنّ القوات المسلحة لديها مصدران للقوّة، مصدرٌ معنويٌّ ومصدرٌ ماديٌّ والمصدر المعنويّ للقوّة أهّم من المصدر الماديّ، ولإحراز النصر يجب توجيه ضرباتٍ نفسيّةٍ قويّةٍ لمعنويات العدوّ باعتبارها مصدر القوة لديه.

وفي هذا السياق، زعم الجنرال عميت ياغور، النائب السابق لرئيس الشعبة الفلسطينيّة في قسم التخطيط بجيش الاحتلال، والضابط السابق في المخابرات البحرية، زعم أنّ “نشاط حماس المعادي في أوساط المؤسسات والرأي العام الغربي تجّاه الاحتلال قائمٌ على مفهوميْن أساسييْن: أولهما أنّه يرتكب (إبادة جماعية) في غزة، ويقوم بتجويع سكان القطاع بشكلٍ منهجيٍّ، تمهيدًا لإنكار شرعية الاحتلال من خلال الاستناد على الأرقام التي تنشرها وزارة الصحة في غزة، ولسوء حظ الاحتلال فإنّ المجتمع الدوليّ يتلقى هذه الأرقام بموثوقيّةٍ وموضوعيّةٍ”.
وأضاف في مقال نشرته صحيفة (معاريف) العبريّة، أنّ “مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة يعتمد البيانات التي تنشرها مؤسسات (حماس) حول أعداد القتلى في غزة، خاصّةً النساء والأطفال، ممّا يعتبر مدخلاً لهجومٍ دعائيٍّ واسع النطاق ضدّ إسرائيل في الرأي العام الدوليّ، واستغلال هذه الأرقام بأشكالٍ متنوعةٍ، وقد تحولت مع مرور الوقت إلى سلاحٍ في يد (حماس) التي تتهم الاحتلال بانتهاك قوانين الحرب”.
وأكّد أنّ “المفهوم الثاني الذي نجحت (حماس) في تعميمه حول العالم يتمثل في اتهام الاحتلال بتجويع الفلسطينيين، ومنع دخول المساعدات الإنسانيّة، وبالتالي فإنّ الفرضية السائدة المتجذرة في الرأي العام الغربيّ والدوليّ أنّ الاحتلال يُركِّز فقط على الجهد العسكريّ، ويهمل الجوانب الإنسانية، دون أنْ يكون هناك أحد في النظام الإسرائيليّ بأكمله، لا سيما المستوييْن السياسيّ والعسكريّ، يدرك خطورة ذلك، رغم أنّ (حماس) تبذل جهودًا كبيرة في (هندسة العقل العالميّ) لصالحها”، على حد وصفه.
وأشار إلى أنّ “حماس رفعت التحدي أمام إسرائيل في هذا السياق، وخلقت (تسونامي)، أي طوفانًا دوليًا، حول البيانات الإحصائيّة القادمة من غزة، مع العلم أنّنا لسنا في بداية الحرب، لكنّنا نسير نحو نهايتها، وكلّ البيانات التي يتّم جمعها من الآن فصاعدًا ستحدد السردية التي سيتّم تذكرها منها في الوعي الدوليّ لسنواتٍ قادمةٍ، ما يستدعي من المستويات الإسرائيليّة المنخرطة في الحرب أنْ تعثر على ردودٍ على دعاية (حماس)، وإجراء جهدٍ قانونيٍّ واعٍ قائم على الأرقام والمعطيات الإحصائية”، طبقًا لأقواله.
 وفي هذا السياق قال المؤرِّخ العسكريّ الإسرائيليّ لصحيفة (هآرتس) العبريّة، د. يعقوب بالكوف، إنّ حركة (حماس) قامت بالتصوير والنشر، وهذا أدّى لزيادة الشجاعة لديهم وأدّى لتقوية وحدتهم الداخليّة، لأنّه في نهاية المطاف تمكّنوا من تحقيق انتصارٍ كبيرٍ، وبالمُقابل نحن نجلس بالبيوت، نُتتبع الأخبار، ونسمع تصريحات الناطق العسكريّ السخيفة، وهو يقول (أصبنا جميع الأهداف)، وهو الأمر الذي لا يعني لنا شيئًا، كما قال.
 وتابع المؤرِّخ: “لهذه الفيديوهات قوّةً عظيمةً في إنتاج الوعي الجماعيّ، ولذا يجب أنْ يكونوا قسمًا من الحرب. في الأيّام الأولى للحرب، سيطرت التأتأة على ممثلينا، ولكن في (حماس)، قاموا بتوثيق كلّ شيءٍ، بما في ذلك اختراق الجدار، إنّهم يفهمون أنّ هذا الأمر هو الذي يُجدي نفعًا، وبالتالي فإنّنا نتخلّف مقابلهم على الأقّل ألف سنةٍ ضوئيّةٍ”، على حدّ وصفه.
 وتساءل المؤرِّخ: “أعداؤنا في تنظيمات (حماس)، (القاعدة) و (داعش) يتواجدون أمامنا بعيدًا في فهم أهمية هذا الموضوع، أيْ نشر الفيديوهات. أين الجيش الإسرائيليّ ولماذا لا يُعلِّم الجنود والضُبّاط هذا الأمر؟ أين الاختصاصيين في مجال الحرب على الوعي؟”.
 أمّا البروفيسور يتسحاق بن يسرائيل، فقال للصحيفة إنّ “تأثير هذه الفيديوهات على صُنّاع القرار محدودة”، ولكن مع ذلك أقّر بأنّ نشر الفيديوهات من قبل (حماس) أثر كثيرًا من الناحية النفسيّة على الإسرائيليين، الذين شاهدوا اليهود وهم يُقتادون في شوارع غزّة، الأمر الذي أدّى إلى زيادة الرغبة في الانتقام لدى الإسرائيليين”، على حدّ قوله.
 ولفتت الصحيفة إلى أنّ “الجيش الإسرائيليّ لم يقُمْ فورًا باستدعاء الصحافة الاجنبيّة، وتذكّر بالأمر فقط بعد مرور عدّة أيّامٍ من هجوم (حماس) على مستوطنات غلاف غزّة، وهذا الأمر لا يتعلّق بالثقافة، إنّما بالتوجّه الخاطئ لفهم الحرب على كيّ الوعيْ، ولذا فإنّ الجيش الإسرائيليّ مُتخلِّف جدًا، وهو ليس منظمًا كأيّ جيشٍ عصريٍّ في مجاليْ الدعاية ونشر الرواية الإسرائيليّة”.
 من ناحيته قال عالم الاجتماع الإسرائيليّ، د. يوفال درور، إنّ الثورة أوْ الطفرة في وسائط التواصل الاجتماعيّ وتوفّر الهواتف الذكيّة جعل الأخبار، جميع الأخبار، تنتقل مباشرةً من أرض المعركة إلى الإنسان العاديّ دون وساطاتٍ، الأمر الذي دفع الناس إلى التساؤل: الجيش الإسرائيليّ يتواجد في غزّة، لماذا لا يقوم بالمهمّة الآن، الآن وليس غدًا، أوْ بكلماتٍ أخرى، الهواتف الذكيّة جعلت الإنسان أقّل صبرًا من ذي قبل”.
 وخلُص إلى القول إنّ “الجميع، بما في ذلك الساسة، وقادة الجيش والعائلات والجنود، وطبعًا نحن المواطنين بتنا أقّل صبرًا، وأنا لا أعتقد أنّها ذلك أخبارًا جيّدةً، ولكن الشعور السائد أنّ نشر المعلومات بهذه الطريقة يؤثِّر على الجميع، وفي حالةٍ من هذا القبيل، أيْ الحرب، العجلة من الشيطان”، على حدّ وصفه.
 وفي النهاية، علينا التأكيد بأنّ هناك البعض الكثير من أمّتنا العربيّة، بمن فيهم من الفلسطينيين، الذين كما قال أفلاطون “لو أمطرت السماء حريّة، لرأيت بعض العبيد يحملون المظلّات”، كانوا وما زالوا على استعدادٍ للزعم بأنّ إسرائيل انتصرت، حتى لو أقّر بنيامين نتنياهو وزبانيته بالهزيمة، هذه الثلّة من مُستدخلي الهزيمة يجِب نبذها وعدم الإصغاء إلى دجلها.

شاركها.