نماذج ميتا الذكية على جبهة القتال في الصين
مع التطور المتواصل للتقنيات الحديثة، تبرز أمامنا صورة غير مسبوقة لعالم يتشكل حول قوى جديدة وأدوات تتجاوز حدود الفهم التقليدي لمفهوم “القدرة العسكرية” فلم يعد الصراع بين الدول مقتصرًا على امتلاك عدد أكبر من الدبابات أو الصواريخ أو الأسلحة النووية، بل أخذ شكلًا مختلفًا يمزج بين التطورات الرقمية والذكاء الاصطناعي، ومع هذا التطور، يعود إلى الأذهان تساؤل جوهري يُطرح بنبرة جديدة: “هل نحن على أعتاب سباق تسلح جديد؟”
عندما نتحدث اليوم عن سباق التسلح، فإننا لا نشير إلى السباقات السابقة التي خاضتها الدول العظمى، ولا إلى التجارب النووية التي كانت تُجرى في الصحارى أو أعماق المحيطات؛ بل إلى سباق مختلف تمامًا، سباق تجري أحداثه داخل المختبرات الرقمية والشبكات العصبية الاصطناعية. إنه سباق جديد تنخرط فيه القوى الكبرى، ساعية لتطوير أنظمة ذكاء اصطناعي متقدمة تتداخل مع منظوماتها الدفاعية والهجومية، لتصبح هذه التكنولوجيا أداة تُحدث تغييرًا جذريًا في موازين القوة.
يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي اليوم كعنصرٍ حاسمٍ في إعادة تشكيل الاستراتيجيات العسكرية، حيث بات بإمكان الخوارزميات تحليل كميات ضخمة من البيانات العسكرية في وقت قياسي، ما يتيح للقادة اتخاذ قرارات مبنية على دقة معلوماتية لم تكن ممكنة سابقًا، ولنا أن نتخيل أن ما يحتاجه ضابط عسكري لتحليل المواقف والتخطيط قد بات يُنجز خلال ثوانٍ قليلة، وهذا يعزز من جاهزية الجيوش وقدرتها على استباق المخاطر.
ومع هذا التقدم، ظهرت مفاهيم جديدة للآلات ذاتية التشغيل، التي يمكن برمجتها لأداء مهام عسكرية كاملة بدون الحاجة إلى تدخل بشري مباشر، ولعلنا هنا نتحدث عن طائرات بدون طيار تستطيع رصد الأهداف وتنفيذ الضربات بدقة مذهلة، وأنظمة دفاعية تعتمد على الذكاء الاصطناعي للتعامل مع التهديدات بشكل فوري وآلي، دون الحاجة إلى قرار بشري، وهذا في حد ذاته يفتح بابًا واسعًا أمام مرحلة جديدة من سباق التسلح.
التنافس على استخدام الذكاء الاصطناعي في المجالات العسكرية بدأ يأخذ طابعًا استراتيجيًا بين القوى الكبرى، إذ تسعى دول مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا إلى الاستفادة القصوى من إمكانيات هذه التكنولوجيا لتعزيز قدراتها العسكرية بشكل غير مسبوق.
الصين، على سبيل المثال، تخطو خطوات كبيرة في هذا الاتجاه، حيث طورت أداة “ChatBIT” التي تستند إلى نموذج “لاما” مفتوح المصدر من شركة “ميتا”، وقد تم تكييف هذه الأداة لتقديم استشارات وتوجيهات للقيادات العسكرية الصينية، ما يجعل القرار العسكري أكثر سرعة ودقة.
ومن خلال هذه النماذج، تصبح القرارات الحربية أكثر فعالية، والاعتماد على الذكاء الاصطناعي يمنح تلك الدول قدرةً تنافسيةً أكبر تمكنها من تنفيذ عملياتها العسكرية بسرعة وكفاءة، ويضع القوى الأخرى أمام تحدٍّ صعب، يتمثل في ضرورة اللحاق بهذا السباق أو المخاطرة بفقدان الهيمنة العسكرية.
غير أن اندفاع الدول نحو الذكاء الاصطناعي العسكري يثير تساؤلات حادة حول المخاطر الأخلاقية والتحديات الأمنية التي قد تنجم عن هذا التوجه، إذ أن استخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي لاتخاذ قرارات مصيرية في ميادين القتال يطرح مشكلة كبيرة، حيث تعتمد هذه الأنظمة على برمجيات قد تحتوي على ثغرات أو أخطاء برمجية قد تؤدي إلى نتائج كارثية، فهل يمكن تصور تبعات وقوع خطأ في برمجة منظومة عسكرية تعتمد على الذكاء الاصطناعي لاتخاذ قرار الهجوم؟ وماذا لو اتخذت تلك الآلات قرارًا خاطئًا بإطلاق النار على أهداف غير معادية، أو تسببت في تصعيد غير محسوب لنزاع إقليمي؟
إلى جانب ذلك، يتزايد القلق من احتمالية تعرض الأنظمة العسكرية الذكية للقرصنة أو التلاعب، ما يعني أن الاعتماد الكلي على الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري قد يصبح سلاحًا ذو حدين، فبينما يساهم في تعزيز القدرات القتالية، يفتح الباب أمام ثغرات أمنية قد تستغلها جهات معادية لشل منظومات دفاعية كاملة أو حتى توجيهها ضد مالكيها الأصليين، مما يزيد من أهمية توفير الحماية الرقمية وتطوير وسائل فعالة للتصدي لهجمات القرصنة في ساحة المعركة الرقمية.
ومع أن هذه التحديات تضع ضغطًا كبيرًا على المجتمع الدولي، إلا أن العديد من الشركات التكنولوجية الكبرى، خاصة في الولايات المتحدة، بدأت بفرض قيود على استخدام نماذجها المفتوحة المصدر لأغراض عسكرية، ولكن هذا التوجه قد يواجه صعوبات على مستوى التنفيذ، إذ أن التقنيات الحديثة باتت في متناول اليد، ويمكن للدول تكييف النماذج المتاحة لملاءمة احتياجاتها الدفاعية بسهولة، كما فعلت الصين بتطوير “ChatBIT” الذي يستند إلى تقنيات مفتوحة المصدر، وهذه الإمكانيات المفتوحة قد تجعل من الصعب مراقبة أو ضبط عمليات تطوير الذكاء الاصطناعي للاستخدامات العسكرية بشكل كامل.
ولعل السمة الأكثر إثارة للقلق هي أن هذا السباق التكنولوجي قد يؤدي إلى تصعيد النزاعات بين الدول بدلاً من حلها، فامتلاك تكنولوجيا عسكرية متطورة مثل الذكاء الاصطناعي يجعل الدول تشعر بقدرة أكبر على المجابهة والمواجهة، ما يقلل من فرص التفاوض، حيث تنمو الثقة المفرطة بقدرات التكنولوجيا المتقدمة لدرجة تدفع الدول للجوء إلى الحسم العسكري بدلاً من الدبلوماسية، ولهذا نجد أنفسنا أمام واقع جديد، حيث قد تؤدي تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي إلى تقليص المسافة بين نشوب الصراعات واندلاع الحروب.
وبالرغم من أن التوجه نحو الذكاء الاصطناعي العسكري يبدو مسارًا طبيعيًا في ظل تطور التكنولوجيا، إلا أنه يضع البشرية أمام تحديات لم يسبق لها مثيل، فالذكاء الاصطناعي لا يقتصر على الأتمتة أو تسهيل العمليات، بل يمكن أن يتحول إلى أداة تثير الذعر والقلق في كل مرة تتحول فيها هذه التكنولوجيا إلى ساحة الحرب.
كما أن السباق نحو تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي قد يتسبب في إهدار ثروات ضخمة وموارد لا حصر لها، تُوجّه نحو التسلح بدلاً من التنمية والبناء، وفي هذا السياق، نجد أنفسنا أمام معضلة تفرض على المجتمع الدولي التفكير بجدية حول ضرورة إيجاد أطر تنظيمية واتفاقيات دولية للحد من سباق التسلح في هذا المجال.
في ختام مقالي هذا، يبقى السؤال: هل نحن على أعتاب سباق تسلح جديد، تقوده القوى الكبرى نحو صراع رقمي يعتمد على الذكاء الاصطناعي؟ وهل يمكننا أن نتجنب المخاطر الناجمة عن هذا السباق؟ يبدو أن الإجابة على هذا السؤال تتطلب وعيًا جماعيًا وتعاونًا دوليًا لمواجهة التحديات، وتأسيس ضوابط تُبقي هذا التقدم التكنولوجي في نطاق الاستخدام السلمي.