مناقشة لأفكار حول حروب الإبادة وحروب التحرُّر الوطني .. عبد المجيد سويلم
سأبدأ من هذا المقال بمناقشة الصديق العزيز الأستاذ عبد المجيد حمدان، الغني عن التعريف، والذي لديه باعه الطويل في الدراسات والأبحاث حول «التوراة» واليهودية وحول مختلف شجون وشؤون الهمّ الوطني العام.
أظنّ أنني كما الأستاذ حمدان نهدف إلى فتح حوار يشارك به الكتّاب، وأصحاب الرأي المؤثّر في الوعي الوطني حول قضايا الصراع مع المشروع الصهيوني خلال هذه الحرب، وحول كل ما قبلها، سواء تعلّق الأمر بسياقها ومقدّماتها، وسير أحداثها ونتائجها المباشرة والبعيدة والإستراتيجية، أو سواء تعلّق الأمر بالتوازنات الإقليمية والدولية التي جرت هذه الحرب في كنفها.
استهلّ حمدان مناقشاته بما ورد في مقالي المنشور على «الأيام» بتاريخ 23/1/2025.
هنا، وهنا بالذات أظنّ أن لدينا بعض المشكلات التي تتعلّق بالمنهج، حيث لا أرى أن تكون بداية المناقشة من المقال المشار إليه، وحيث إنه قد جاء بعد نشري لما يصل إلى 120 مقالاً منذ بداية الحرب وحتى الآن.
وفي المنهج، أيضاً، أرى أن مناقشة هذه الحرب تقتضي الذهاب إلى مقدماتها وسياقها ونتائجها حتى الآن، وذلك لأن بدء المناقشة من السياق الطويل والشامل يخدم فكرة المناقشة بصورة أعمق في مسألتين على اقلّ تقدير:
الأولى، هي أن المشاركة في المناقشات، سواء الآن أو لاحقاً، ومشاركة القرّاء تحديداً ستكون أكبر، وربما أشمل، وبما لا يُقاس فيما لو اقتصرت المناقشة على «بعض المفاهيم المغلوطة أو غير المغلوطة».
والثانية، هي أننا سنحتاج على كل حال للرجوع إلى السياق الطويل والشامل في كل مرة، وإلى منطلقات كل وجهة نظر، ونحن نعالج هذه المسألة أو تلك من مسائل هذه الحرب، ليس فقط لأن مثل هذا الأمر هو أمر منطقي ومنهجي، أيضاً، وإنما ــ وهذا هو الأهمّ ــ لأن مثل هذا الرجوع يصبح ضرورة حتمية طالما أن المناقشة الخارجة عن السياق أو المقطوعة عنه ستفعل فعلها السلبي ــ كما أرى ــ في قطع الصلة الضرورية والعضوية بين المناقشة والسياق.
وحتى لا تكون هذه الملاحظات التي أعتبرها منهجية عائقاً أمام الحوار والمناقشة التي بدأها حمدان فإنني أستميحه عذراً بتلخيص وجهة نظري بعجالةٍ وتكثيف شديدين، لكي أدخل مباشرة إلى نقطة البداية التي أثارها، ولكي تكون المناقشة من نفس النقطة.
كما يعرف القرّاء فإن التلخيص والتكثيف هي مهمّة صعبة، ولعلّها أصعب بكثير من إيصال الأفكار بالشرح والإسهاب إلى الدرجة التي قال بصددها أحد المفكّرين لصديقه الذي طلب منه البحث في مسألة ما ــ وأظنّها كانت حول تاريخ اليهود ــ قال له: آسف يا صديقي، لقد كتبتُ لك بالتفصيل لأنه لم يكن لدي وقت لأكتب باختصار.
لذلك لا بدّ أن نلخّص السياق السابق حتى نصل إلى المقال الذي بدأ منه الأستاذ حمدان مناقشته.
ملخّص السياق السابق يمكن اختصاره بالنقاط التالية:
أوّلاً، هناك فرق هائل وكبير بين وجهة نظر ترى في هذه الحرب أنها كانت «فائضة» عن الحاجة، وكان من الممكن تفاديها، وأنّها بهذا المعنى هي حرب مغامِرة، وعلى الأغلب غير محسوبة، وتعود لأسباب خاصة وذاتية، وإلى اعتبارات ضيّقة.. وبين وجهة نظر مقابلة، وربما معاكسة بأنها قد جاءت في سياق قراءة سياسية واعية، وهادفة، ومؤسّسة على تشخيص دقيق لما كانت قد وصلت إليه المخططات الصهيونية، وكذلك الأميركية نحو تصفية القضية الوطنية بعد سنوات من مسار حسم الصراع، وكيف أنّ قطاع غزة كان على أي حال سيتعرّض لحربٍ للإبادة بصرف النظر عن مبرّرات هذه الإبادة، والتي نعرف جيداً أنّ الاحتلال ما كان ليعدم الوسيلة المطلوبة لإيجادها، ولعل ما جاء على لسان الرئيس الأميركي دونالد ترامب قبل أقلّ من يومين بحضور رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو أبلغ دليل على ذلك.
ثانياً، وبذلك تصبح المناقشة حول المغامرة من عدمها، وحول موازين القوى، وحول طبيعة الحرب وأهدافها مناقشة مفهومة استناداً إلى المقاربة التي تطرحها كلّ وجهة نظر.
ثالثاً، وفي ضوء ذلك تتحدّد بصورة أقرب إلى الموضوعية مسائل النصر والهزيمة، لأن بقاء هاتين المسألتين معلقتين في الهواء، وبمعزل عن ذلك كله يعني الخروج من سكّة النقاش السوي، وتتحوّلان (النصر والهزيمة) إلى سياقات إمّا ذاتية أو ذاتوية، وهما في الحالتين بهذا الخروج تتحوّلان إلى مقاربة مقطوعة الصلة بالسياق المنطقي والضروري على حدّ سواء.
رابعاً وأخيراً، فإن مسألة الرهانات والمراهنات وليس الارتهانات على كلّ حالٍ مسألة مفهومة اكثر على ضفّتي وجهة النظر، وبصورة أقرب إلى البقاء في دائرة السياق المطلوب. وتتحوّل الحسابات بكافة أشكالها وتنوُّع أسبابها ودوافعها إلى حسابات واعية ومدروسة أو حسابات عشوائية وارتجالية، وعلى هذا الأساس يصبح قياس النتائج، الظاهر منها للعيان والمخفي والذي ما زال برسم التبلور في المديات المتوسطة والبعيدة قياساً يحتكم للمنطق ومحكوماً بأُسسه وتحديداته.
هذا هو ما أراه ضرورياً للتوضيح بما سميته المتطلب المنهجي حتى يصار إلى الدخول في مناقشة المقاربة التي أتى عليها الأستاذ حمدان، ومن النقطة التي انطلق منها بالذات.
سأبدأ من مقال حمدان حول الفرق بين حروب التحرُّر الوطني وبين حروب الإبادة التي عرفناها في التاريخ الحديث والمعاصر، أو ما قبل ذلك بقدر ما يتوفّر حولها من معطيات، على أن أُخصّص مقالاً آخر للمقال الثاني الذي نشره على صفحته والذي يتعلّق بمسألة موازين القوى في الواقع الفلسطيني كاستطراد للمقال الأوّل.
ينطلق حمدان في مقاربته للردّ على مقالي في مقاله المميّز على كلّ حال من أن الحركة الصهيونية، وكامل سياق المشروع الصهيوني قد انطوى نظرياً وتطبيقياً على مفهوم الإبادة، وهذا كلّه صحيح، ولا أراه سبباً للاختلاف حوله مطلقاً.
و»تخليق» حرب المستوطنين نحو هدف «الاستقلال» هو نسخة عن حروب الإبادة في بلدان أخرى بما فيها أميركا.. فهذا، أيضاً، وارد وصحيح، وبالتالي فإن دعوة حمدان لإبقاء الحالة الفلسطينية في دائرة حروب الإبادة هو مطلب محقّ، ولكن؛ لم تتم إبادة السكان الأصليين الفلسطينيين، لا قبل قيام دولة الاحتلال ولا بعدها وهذا فرق أوّل، ولم ينتهِ الوجود المادي والسياسي لهذا الشعب وهو الذي تولّى زمام مقاومة المشروع الصهيوني على الأرض الفلسطينية، في «الداخل» الفلسطيني بوجود ما لا يزيد على 150 ألف ممّن لم تتمكّن العصابات الصهيونية من تهجيرهم، ثم انتقال مقاومة المشروع الصهيوني إلى الضفة والقطاع، ثم الانتقال إلى فلسطينيي الشتات في الستينيات وانطلاق أوّل ثورة معاصرة بقيادة حركة فتح، وباقي الفصائل الفلسطينية، وهذا فرق ثانٍ، وأسّس الشعب الفلسطيني منظمة التحرير الفلسطينية ككيان وطني تمثيلي وشرعي معترف به من قبل غالبية دول وشعوب الأرض وكحركة تحرُّر (وطني)، وهذا فرق ثالث.
وهناك عشرات الفروقات الأخرى التي طبعت مقاومة الشعب الفلسطيني بطابع التحرُّر الوطني، ولا أظنّ أنّ طبيعة المشروع الصهيوني من حيث كونه «إبادياً»، قد منع ونزع عن الشعب الفلسطيني مسألة التحرُّر الوطني، وحوّل مفاهيم موازين القوى، ومفاهيم الربح والخسارة إلى دائرة خارج سياق مفهوم التحرُّر الوطني.
أظنّ يا صديقي أننا بحاجة إلى نقاشات موسّعة للتفريق ما بين المفاهيم الملموسة لمعارك التحرُّر الوطني ضدّ الاستعمار التقليدي، و»هو الذي ورد على لساني في المقال»، وبين حروب الإبادة، حيث يرى الأستاذ حمدان أن هذه الحروب للتحرُّر الوطني لا تنطبق على الحالة الفلسطينية، بقدر أن ما ينطبق على الحالة الفلسطينية هو حرب الإبادة، ويرى أن هناك «خلطاً» مفاهيمياً عندي، وأشار بصورة مضمرة إلى عدم دقّة المعطيات أو المعلومات التي «أوردتها» حول هذه المسألة.
أي أنّه يرى المشروع الصهيوني منذ بداياته الأولى قد انطلق وصمّم على هذه القاعدة، وأنّه لا يتقاطع، ولا يساوي أو يوازي حروب التحرُّر الوطني التقليدية، حتى وبالرغم من أن بعض مظاهر الاقتلاع والإحلال قد عانت منها «جزئياً» بعض التجارب، وذلك لأن حروب الإبادة قد (خلّقت) حالة من المستوطنين أنفسهم والتي تولّت مهمة «الاستقلال»، وحيث إنّ هذه الحروب طويلة المدى، ولا تحسم بالضربة القاضية، وحيث إنّ الناس والسكّان الأصليين الأكثر عدداً والأقلّ عدة وتسليحاً تخسر حروبها بسبب امتلاك «المستوطنين» لوسائل الحرب الحديثة ومعدّاتها، يرى حمدان أن مفاهيم الربح والخسارة، ومفاهيم موازين القوى، تختلف بصورة كبيرة بين هذين النوعين من الحروب، وما نظر إليه كمثلب أو مأخذٍ كبير، وعلامة من علامات اللبس والالتباس فيما ذهبتُ إليه.
بدايةً، لا أرى سبباً للاختلاف معه هنا بالذات، وذلك لأن مقالي لم يكن بحثاً في سمات ومواصفات حروب الإبادة، ولا أرى سبباً لإقحام مثل هذا الاختلاف المفترض بالسياق الذي ورد في صورة خلطٍ بين مفهوم التطهير العرقي، ومفهوم الإبادة في الحالة الفلسطينية.
تعرف، أيضاً، أن هذا المفهوم تطبيقياً كان له نصيب الأسد في الممارسة الصهيونية، ولم يكن مفهوم الإبادة قد نضجت ظروفه الداخلية الإسرائيلية إلا في السنوات الأخيرة، وهو الشرط الذي رأيته وأوردته أنت عن حق في مقالك.
أنا لا أعرف إذا كان مفهوم الإبادة ينطوي ويوازي ويساوي مفهوم التطهير العرقي، فأنت تدرك أفضل مني أن «المؤرّخين الجُدد» قد أثبتوا صحّته، وأن الصديق إيلان بابيه أوضحه وشرّحه بحنكة شجاعة، وأرى أن هناك الكثير من المسائل في المفاهيم السياسية و»القانونية» التي نحتاج إلى الحوار بشأنها على هذا الصعيد.
وإلى ذلك الحين، في المقال القادم تقبّل تحيّاتي وإعجابي بما ورد في مقالك، على أمل مناقشة ما ورد من ردود عليّ في مقالك الثاني، وأرجو أن تتذكّر يا صديقي أن مفهوم «التحرُّر الوطني» في الحالة الفلسطينية هو منتوج سياسي لوقائع موضوعية محيطة، بالرغم من تأصّل مفهوم الإبادة في الفكر والممارسة الصهيونية.