فاطمة حسونة تحظى بموت مدوٍ..ريما كتانة نزال
قالت الصحافية فاطمة حسونة: «أريد أنا إذا مِتُّ.. أريد موتا مدويا، لا أريدني في خبر عاجل ولا في رقم مع مجموعة، أريدُ موتا يسمعُ به العالم، وأثرا يظل مدى الدهر، وصورا خالدة لا يدفنها الزمان ولا المكان».
بعد 555 يوما من الإبادة، تحصل فاطمة حسونة على موتها المدوي، كانت كلماتها بمثابة وصية مسجلة بالصوت والصورة، تم دفنها وبقيت صورها.. على كل حال، لم تكن أمنيتها من تلك الأماني المستحيلة في غزة، تحققت بعد أن سجلت بكاميرتها صور الإبادة ومخلفاتها الهمجية، استشهدت في قصف شديد من طائرة حديثة الصنع مع عشرة أفراد من عائلتها، فأحدث القصف رعداً مجلجلاً جاب جميع أرجاء غزة، وصلت أصداؤه جبال فلسطين وسهولها، معلناً رحيل فاطمة المدوي بصوته الهادر والحفرة العميقة التي اخترقت بطن الأرض، فكان لفاطمة ما أرادت تماماً، موت أكثر من عاجل وأكبر من رقم، فالموت في غزة ينتقي ضحاياه حيناً، ويحصدهم جماعيا في معظم الأحيان، لكنه في حالة فاطمة كان يريد التخلص من عدسة فاطمة الذكية ومن صور عن الإبادة، لكن فاطمة حصلت على موتها الذي لم يكن مدوياً فحسب، بل أحدث ارتداداته المنتظرة على جبهة القتلة، فكان ضحكاً مدوياً لجيش الاحتلال كما جرت العادة، فقد تخلص من إحدى العيون الحساسة التي توثق يوميات الإبادة.
كانت فاطمة تبدأ صباحاتها برسالة نصية إلى خطيبها تحدد موعد اللقاء ومكانه لاستكمال نقاشهما المكرر حول الحرب والحب، وتكرار فكرتها العالقة بين الحرب والحب على مسامعه، حول العلاقة والمشترك بين الحب والحرب، بأنهما لا يتعبان ولا يملان من استكمال المغامرة مع ملاحظتها الفارق بين الأهداف، لكنها كانت تؤكد بأنها تحبه بذات الطريقة، لا تتعب ولا تمل.. وكان يقول لها، إن الحب في زمن الإبادة يختلف، لا يموت أحدهما بموت أحد أطرافه، لأن صور الحب والحرب لا تندثر ولا تحترق بل تبقى في الذاكرة، مختتماً رسالته النصية بالطلب منها تدوين حبهما وإشهاره، إن استشهد قبلها.
قبل الصباح الأخير لليلة القصف المجنون؛ كتبت له عن سعادتها برغيف الخبز الذي أهداها سخونته اللذيذة، وشكرته على منحها حصته من ماء الشرب، وكتبت عبارات جميلة كثيرة من بينها أنها تخاف عليه مع كل غارة وكل قصف وكل نزوح.. وتستطرد في رسالتها بأنها أعدت نفسها لتكون علماً مدوياً في الصحافة وبأنها كذلك تعد نفسها لحفلة العرس والرقص فوق الركام، وتختتم رسالتها بالقول، إن الموت ليس من بين الاحتمالات في مخططاتها المستقبلية ومنتظراتها.
رحلت فاطمة بعد ليلة حافلة بالقصف من جميع الاتجاهات، فجيش الاحتلال يريد الانتهاء من مهمته على وجه السرعة. رحلت الابتسامة المشرقة عن حياة ليست كالحياة، أرادت موتاً مدوياً وحصلت عليه، لم يكن طلباً استثنائياً فكل من تمنى الموت في غزة حصل عليه، لأن غزة تُقتل بكل الوسائل والأدوات، بالقصف والجوع والعطش والدمار والتلوث والحصار والظلم والخذلان، وتموت على وقع ضحك الجيش المدوي بعد تنفيذ المهمات.
بعد ليلة القصف المعربد، لم تصل الرجل رسالة الصباح، لو عاشت لكتبت ما قاله شاعرنا: «سأصير يوما ما أريد.. سأصير يوما فكرة».