هذا خريف إسرائيل الأخير.. وليس ثمة ربيع بعده..د. لينا الطبال
أدركت إسرائيل أن أبناءها لم يعودوا يحبونها، وانهم يتحدثون عنها كما يتحدث شاب مراهق عن أمه في جلسات العلاج النفسية. صحيح ان هذا الجيل ولد في بيوت آمنة وسمع حكايا الناجين من “اوشويتز” و”داخاو”، وهو يتسأل: “هل نحن نفتعل الإبادة في غزة من اجل الدولة او من اجل نتنياهو؟” هذا الجيل يتسكع في الغرب وحول العالم، ويجيب بصوت منخفض حين يسأله احد: “من اي بلد انت؟”، هذا الجيل اكتشف اليوم ان أمه التي كان يظن انها ضحية هي من صنعت كل هذه المآسى…
الجيل اليهودي الشاب، قد نضج اخيرا. كبر، وفتح الباب بنفسه، وخرج. لم يعد بحاجة لحاخام حتى يتلو عليه ادعية من كتاب “السدور”. رأى العالم بعينيه، واكتشف ان “ارض الميعاد” لا تنتهي عند جدار الفصل العنصري، وان هناك عالم اخر خارج حدود هذه الدولة… كارثة.
الجيل الشاب من يهود الغرب، الولايات المتحدة وكندا وفرنسا وأستراليا، اغلبيته يفضل الوقوف مع الفلسطيني الذي يتم قتله واعتقاله وتهجيره من ارضه. هذا الجيل لن ينشد بعد اليوم الـ”هاتيكفا” (النشيد الوطني الإسرائيلي) في عيد الاستقلال، هو ربما سيسير مع “النيتوراي كارتا” في مظاهرات معادية لاسرائيل. هذا الجيل لا يعجبه منظر الدبابة عند مدخل مخيم جنين ونابلس والبوابات المغلقة في الخليل.
الشاب اليهودي في بروكلين يبحث عن العدالة. الفتاة اليهودية في باريس تنشر قصيدة عن غزة وصور المعتقلين في الاقفاص.
ad
في إسرائيل قد يشعر بعض الشباب بالحرج من الاحتلال أكثر مما يشعرون بالفخر من “أمجاد الآباء المؤسسين”. “الريفوزنيك” (رافضو خدمة الجيش) لا يريدون القتال من أجل أوهام قديمة، ولا أن يقتلوا دفاعا عن حدود لا تعني لهم اي شئ، ولا أن يواصلوا دفع ثمن أخطاء الى ما لا نهاية.
كارثة وطنية…
منذ تأسيسها، بنت اسرائيل الوعي الجماعي على فكرة أنها محاطة بالأعداء، وأنها مهددة بالإبادة في أي لحظة. لقد كان وصف ” ايهود باراك” لإسرائيل بأنها “فيلا في غابة” تلخص فلسفة سياسة كاملة تبرر الخوف، العنف، والغطرسة في الخطاب الإسرائيلي الداخلي والخارجي.
الجيل الإسرائيلي الجديد (خاصة الشباب العلمانيون)، لم يعد يؤمن أن وجوده مهدد فعليا. أصبح يرى أن هذه الحروب المتكررة هي مشروع سياسي يصب في مصلحة سياسيون فاسدون مثل ليبرمان، درعي، أولمرت او نتانياهو.
كارثة، كارثة، كارثة….
والحل؟؟ هو سهل جدا.
إذا لم يعد اليهود يحبون إسرائيل، فلنستورد حب مزيف بطعم الكارثة وأكثر. إسرائيل بحاجة الى فكرة، الى قصة تجلب التعاطف معها من جديد… وتجمع الناس حولها من جديد ايضا.
“باروخ أتا أدوناي” (مبارك أنت أيها الرب) … المعجزة تحققت: “نبوءة الصهاينة المسيحيون”.
هذه هي الرواية الجديدة التي تسوق لها إسرائيل اليوم: المسيح سيعود، وسيهبط في مطار بن غوريون بالتحديد. وسط التدقيق المهووس بكل حقيبة، بكل كلمة، بكل حرف. لحسن الحظ، الصهاينة المسيحيون جاهزون، وهم لا يدعمون إسرائيل حبا بها. هم يستعملونها كي يأتي المسيح، حسب روايتهم المجيدة. وعندها سيتم قتل كل يهودي يرفض الاعتراف به. منتهى المنطق: اقتلهم لأجل خلاصهم.
مرحبا بك في الشرق الأوسط.
“مايك هاكابي”، سفير أمريكا لدى إسرائيل، رجل متوسط الطول عيناه صغيرتان فيهما نظرة عناد أكثر من بريق ذكاء. مسيحي إنجيلي كان قبل دخوله معترك السياسة قسيس معمداني. هذا الرجل يحمل العداء الضمني لكل ما لا يشبه المسيحي الابيض ويرى في دعم إسرائيل فريضة مقدسة… وكأننا لا نعرف !”مايك هاكابي” لا يؤمن بالسلام في الشرق الأوسط، ولا يكترث بإقامة دولة فلسطينية، بالنسبة له “لا يوجد شيء اسمه الضفة الغربية – إنها يهودا والسامرة. لا يوجد شيء اسمه مستوطنة. إنها مجتمعات. إنها أحياء. إنها مدن. لا يوجد شيء اسمه احتلال”. نظرة “ابوكاليبسية” يحسب بها قيام إسرائيل جزء من النبوءات التوراتية المتعلقة بحرب نهاية العالم التي ستنفجر في سهل مجيدو: معركة “هرمجدون”.
“هرمجدون “هي كلمة عبرية الاصل، “هار مجيدو”، جبل صغير في فلسطين. هناك، بحسب نبوءة سفر الرؤيا، ستلتقي قوى الخير بقوى الشر، وتبدأ نهاية العالم، لتنتهي بولادة العصر الألفي السعيد تحت حكم المسيح.
ملايين الإنجيليين في أمريكا يحمون إسرائيل، لا لأنهم يحبونها، لكن لأن وجودها ضروري لإكمال نبوءة نهاية العالم. والفلسطينيون، ويا لعثرة حظهم هنا أيضا! لا ذكر لهم في نص هذه النبوءة، حتى لو انهم أصحاب الأرض. حتى لو انه يتم ابادتهم… ما يسعى إليه الإنجيلين لا علاقة له بالسلام. القصة أكبر من مناصرة الشعوب المقهورة وانهاء الاحتلال. كل ما يريدون هو تحقيق نبوءة نهاية العالم بانهيار الشرق الأوسط كله وخلاص البشرية.
الملايين ينتظرون ان تفتح أبواب السماء… مرحبا بكم في الهذيان المقدس باسم الخلاص!
إسرائيل التي أسسها الآباء دولة قومية علمانية ذات توجه يساري. استبدلت هويتها ونصوصها التوراتية بنصوص مسيحية انجيلية نصها قساوسة الجنوب الأميركي (المعروف بتطرفه).
تحولت إسرائيل إلى حارس نبوءات غريبة عنها مكتوبة بلغة أخري غير اللغة العبرية. كتبتها ايدي قساوسة جنوبيون ذات عيون زرقاء او رمادية باردة لا تبتسم، يرتدون بدلات من ثلاث قطع واحذية لامعة اكثر مما ينبغي وخواتم ذهبية سميكة وشعر مشدود الى الخلف بجل لامع. في كنائسهم تمتزج الصلوات مع خطابات الحملات الانتخابية، يجمعون التبرعات على المذبح من اجل اليوم الاخير. هؤلاء القساوسة هم صناع أيديولوجيا الخلاص عبر الدمار الشامل!
فقط لأقارب لك ما يحصل من جنون: هؤلاء القساوسة الذين يُحرمون في بلادهم إجهاض الأجنة في بطون أمهاتهم، هم أنفسهم من يباركون ابادة أطفال فلسطين ولبنان وسوريا على شاشات التلفزة كل مساء!
تعال، دعني أعرفك على بعضهم:
“جيري فالويل”، كاهن الدمار ودمج الدين بالسياسة. دعم إسرائيل بكل تطرف، رونالد ريغان سانده كابن مدلل مطيع.
“جيمس دوبسون”، صانع القطيع. هو من بنى ماكينة لإنتاج جيل كامل لا يفكر، ويتبع الحاكم مهما فعل. كان المرشد الروحي والسياسي لرؤساء مثل ريغان وبوش الابن.
“بات روبرتسون “، عراب الحروب. روج للصهيونية المسيحية، وربط بين قصف بغداد ومقدمة الخلاص، وبين احتلال فلسطين والاستعداد لمجيء المسيح.
“جون هاغي”، مروج الغزو المقدس. يعتقد صراحة أن إسرائيل شرط أساسي لعودة المسيح، كان من اكثر داعمي جورج بوش الابن الذي اخذ عنه مصطلح “الحرب الصليبية”.
“بيلي غراهام”، واعظ الرؤساء وباني الجسور بين الرئاسة والدين. كان صديق ومرافق الرؤساء، من ترومان إلى بوش الابن.
” فرانكلين غراهام”، وريث كل هذا الإرث وصانع الفتن المقدسة، ربط دعم دونالد ترامب بالخلاص الإلهي، وقدم سياسات الكراهية كجزء من الإيمان، حرض على المسلمين علنا وشيطن المهاجرين والفقراء.
دونالد ترامب؟ ليس بالرئيس المتدين، لكنه فهم وزن هؤلاء القساوسة جيدا. ومنحهم ما يريدون.
هل تذكرون عندما نقل السفارة الأميركية إلى القدس؟ ودعم ضم الجولان؟ وسحق الفلسطينيين؟
في المقابل، حصل على دعمهم الكاسح في الانتخابات.
هؤلاء القساوسة لم يكتفوا بالوعظ من بعيد. شكلوا جزء من القرار، من التحريض، من الدم الذي سال وما زال يسيل في بلادنا. وما زالوا يقدمون الحرب على أنها خطوة اضطرارية نحو الخلاص… خلاصهم فقط الذي يبدأ بإسرائيل وينتهي بـ”هرمجدون”.
بنامين نتنياهو؟ رجل براغماتي. قرر أن يستبدل اليسار الإسرائيلي بيمين مسيحي انجيلي. قرر أن يراهن على قساوسة يجهلون الفرق بين العبرية والعربية، ولكنهم مستعدون لإرسال المال والصواريخ لإسرائيل.
لم يعد المشروع الصهيوني بحاجة لليهود. صار بحاجة للمسيحيين الذين يكرهون اليهود… تحالف وجودي أساسه الكراهية المشتركة للمسلمين، وللعرب… حفرة مشتعلة قد تبتلع الجميع…. لكن الكلمة الأخيرة هي للتاريخ.
لا يمكن السير عكس التاريخ، كما لا يمكن في الفيزياء إعادة الاحداث إلى حالتها الأولى. ولا يمكن السير بالزمن الى الوراء. يمكنك الذهاب الى المستقبل فقط. كل نظام يتحرك من حالة إلى أخرى بشكل لا رجعة فيه، بفعل قانون طبيعي اسمه زيادة الإنتروبيا. لهذا، مهما حاولوا اليوم أن يغيروا الواقع أو يزوروا الحقيقة، لن يستطيعوا أن يوقفوا الاتجاه العام للأحداث. بعد خمسين عام، كتب التاريخ النتيجة الحقيقية: أننا قد انتصرنا. لأن المستقبل مثل الزمن في الكون، لا يعود إلى الوراء. كتب التاريخ عن شعوبنا انها قاومت كافة أنواع الجنون في هذا الشرق وانها انتصرت.
بكل بساطة: هذه هي المعادلة !
من المضحك ان إسرائيل، التي نشأت ذات يوم كملجأ لليهود المذعورين من صليب اوروبا، باتت اليوم تضع يدها في يد من يحلم أن يعيد شعبها إلى هذا الصليب مجددا ويقدمها كضحية على مذبح خلاصه.
هكذا اذا عزيزي القارئ وسط كل هذا الجنون والهستيريا القادمة من بلادنا، وبينما شاب يهودي يجلس في مقهى في نيويورك يناقش حق الفلسطيني في البقاء، يقف رجل في دالاس او هيوستن او تكساس يصرخ من على منبر كنيسة: “ادعموا إسرائيل كي نُسرع عودة المسيح!”
في تل أبيب، يجلس نتنياهو عند شرفته، يشاهد الحريق، لا يبحث عن نصر. هو فقط يؤجل الخسارة… ويا لها من نكتة.
أستاذة جامعية، باحثة في العلاقات الدولية والقانون الدولي لحقوق الإنسان – باري