ترامب.. عبءٌ في قوّته وعبءٌ أكبر في ضعفه..نبيل عمرو
بعد عودته «المظفّرة» إلى البيت الأبيض، إثر حملة انتخابية تميزت بترضيات لكل أطياف المجتمع الأميركي، وملامساتٍ مدروسةٍ للقضايا التي تستقطب الناخبين، وكذلك إغداقه الوعود للبشرية كلها باستخدام القوة الأميركية ونفوذها، لإنهاء الحروب في كل مكان على سطح الكوكب… بعد ذلك كله، دخل ترامب إلى امتحانٍ مبكرٍ للصدقية والقدرة، كان ذلك في المائة يومٍ الأولى لتتويجه رئيساً لأقوى دولة في العالم، ما يُفترض أن يؤهله ذلك ليكون قادراً على تحقيق وعوده.
لم ينتظر العالم نهاية المائة يوم الأولى ليكتشف الحقيقة، حيث انعدام الصدقية مع انعدام القدرة، وذلك أدّى إلى تراجع مدوٍّ في شعبيته داخل أميركا، وتراجع أكثر فداحة في علاقات الدولة العظمى بحلفائها ومن يفترض أنهم يدورون في فلكها.
أدرك الأميركيون والعالم أن ترامب «الحملة الانتخابية» ليس هو ترامب «البيت الأبيض»، وبالنسبة لنا وما يعنينا كسكّان الشرق الأوسط، فالرجل الذي بدا قوياً بفعل نتائج الانتخابات وتعزز ذلك بفعل استيلائه على وقف الحرب على لبنان وإنجازه صفقات وقف إطلاق النار في غزة، والتبادلات المحدودة التي تمت، جنح بعيداً عن الرهانات التي عُلّقت عليه، فإذا بغزة التي انتظرت مبادراته الانتخابية بوقف الحرب عليها وإعادة إعمارها يحوّلها من وطنٍ لشعبٍ له شخصيته وتاريخه وأحلامه الإنسانية، إلى مشروع استثماري يشترط استكمال إبادتها ونقل ملايينها وبلا عودة إلى أماكن قريبة أو بعيدة، ذلك ليحوّلها إلى «ريفييرا» يصوّرها خياله كرجل أعمالٍ يتصيد الربح وليس كرجل دولة مسؤول.
حوّل الرئيس المنقلب على وعوده حياة الشرق الأوسط إلى منطقة اشتعالٍ تستبد بها أوهام نتنياهو بإخضاعها وتشكيل حاضرها ومستقبلها وفق الأجندات المشتركة بينه وبين سيّده الأميركي، وذلك أنتج في الواقع معادلة خطرة نحن فيها الآن، مفادها أن قوة ترامب بما لديه من إمكانيات عظمى، تكرّست خطورتها على الشرق الأوسط ما دام لا يملك الرغبة والقدرة على إنهاء الحروب فيه، وكل ما يملك فعلاً هو الاستعجال في إنهاء مهمة تدمير ما تبقى من غزة وأي مكان لا يرضى عنه.
الرئيس صاحب الفوز القوي والاستثنائي في معركة الوصول إلى البيت الأبيض، ضعُف كثيراً حتى قبل أن تكتمل الأيام المائة الأولى لولايته، ومظاهر ضعفه بدت كثيرةً وشديدة الوضوح، سجّلتها استطلاعات الرأي داخل أميركا، وأظهرتها تلك الفجوة الواسعة بين قراراته الانقلابية وقدراته على فرضها، وبين شعاره «بعودة أميركا إلى عظمتها». واقع الحال يقول: إن الدولة العظمى في عهده تحوّلت إلى مجرد دائنٍ لدول ومجتمعات، ولا همّ ولا سياسة لها سوى تحصيل هذا الدين، وفي هذا الأمر تساوت أوروبا الأطلسية والأوكرانية مع باقي دول العالم من الصين إلى أميركا اللاتينية إلى الشرق الأوسط.
أميركا في عهد ترامب، صار شعارها المفترض أن يُطبع على عملتها وعلمها «ادفعوا تكاليف حمايتنا لكم مع أننا لم نحم أحداً».
عودة إلينا نحن سكان الشرق الأوسط، بل عودةٌ إلى عنوان المقالة، إن تردي مكانة ترامب في أميركا أدّى إلى اتساع مساحة قدرات وتأثير القوى المعادية لقضايانا العادلة وحقوقنا، تلك القوى التي تشكل سياسة وسلوك الدولة العظمى تجاه منطقتنا، ولننظر الآن ببعض تمعنٍ إلى صورة العلاقة بين ترامب ونتنياهو ومساحة الاختلاف بينهما… ذلك أن نتنياهو كاتب «صفقة القرن» ومهندسها الفعلي، والذي كان فيها ترامب القوي مجرد معلنٍ لها، هو من يقود السياسة الأميركية الآن تجاه غزة وتجاه لبنان بعد أن بدا الأمر غير ذلك في وقتٍ مضى.
لقد جوّف نتنياهو إنجازات ترامب الاستعراضية في غزة ولبنان، وجرّه وراءه في التغاضي عن مواصلة حرب الإبادة على غزة، وتواصل الحرب الانتقائية على الجبهة الشمالية، وبل وحمل عن نتنياهو عبء الحوثي في اليمن فالمعركة هناك أضحت أميركية بامتياز.
الملاحظ أنه في حالة ترامب القوي كان عبئاً على الشرق الأوسط، وفي حالة ضعفه ازداد العبء ثقلاً؛ وذلك بحكم طريقة نتنياهو ومن معه داخل أروقة صناعة القرار الأميركي في التعامل مع ترامب في كل حالاته.
لقد ازدادت مساحة حرية نتنياهو في قول لا لأي أمرٍ شرق أوسطي لا يعجبه، خصوصاً إذا ما تعلق بالشأن الفلسطيني، وما يحيط به من تدخلات على مستوى الجبهة الشمالية.
إن معادلة القوة والضعف لترامب لها مستثمروها ممن يحرصون بل ويحرسون مبدأ أن تظل إسرائيل بعدوانها وحتى بمغامراتها في حالة تبنٍّ أميركي دائم، وترامب هو النموذج الأوضح لذلك… في قوته وضعفه.