بيل إلى رايت.. وصولاً إلى مصير غزة ..عامر بدران
يُعتبر علم الاجتماع، في جانب مهم منه، علماً استخباراتياً. لا أقصد بالطبع أن هذا العلم ترعاه أجهزة المخابرات في الدول، بقدر ما أقصد أنها تستفيد منه في بناء منظومتها الأمنية، ولاحقاً قراراتها السياسية. وما يضيف تأكيداً لاعتبار كهذا، هو أن علم الاجتماع يبحث، أيضاً، فيما لم يعد يعني المخابرات في لحظة ما، بمعنى أن جزءاً من مادته الأساسية، أو الخام إن صح التعبير، هو ما يتم الإفراج عنه كوثائق لم تعد سرية.
التسريبات المقصودة، أي التي تتم عن قصد وتخطيط مسبق، لا تقل أهمية هي الأخرى في تجهيز موضوع البحث ووضعه على الطاولة، وذلك لقياس توجهات الرأي العام، أو حرفها، أو التلاعب بها، من أجل صناعة رأي عام جديد. هذه التسريبات وهذه الصناعة لا تقوم بها وزارة شؤون المغتربين ولا دائرة الترخيص في البلدية على كل حال، بل الأمن والاستخبارات.
لفهم المغزى مما سبق، دعونا نلقِ الضوء على اسم امرأة مرّت على تاريخ وجغرافيا منطقتنا العربية، وتحديداً في الشرق الأوسط والخليج، وكان لها الأثر الكبير في صناعة خرائط المنطقة وتحالفاتها، في لحظة تاريخية كانت فاصلة بين مرحلتين وعالمين: عالم الإمبراطورية وعالم الدول القطرية. إنها الفتاة البريطانية غيرترود بيل، أو «خاتون» كما لقبوها بلغة الإمبراطورية العثمانية، أو «صانعة العراق الحديث» كما يسميها المؤرخون، أو «الجاسوسة» كما سماها الألمان.
مع نهاية القرن التاسع عشر، قرر السلطان عبد الحميد الثاني، سلطان الإمبراطورية العثمانية، شق سكة حديد الحجاز، والتي تصل، كما كان مخططاً، بين دمشق ومكة المكرمة. ستقرؤون في المراجع الإسلامية أن الهدف كان اختصار وقت السفر للحجاج وتقليل معاناة الطريق، وستقرؤون لعلماء الاجتماع أن الهدف هو التوسع جنوباً، وإيجاد بُنية تحتية لنقل الجنود والتموين، خصوصاً بعد أن تقلص نفوذ الإمبراطورية في الساحة الأوروبية.
البعض يقول، إن الفكرة وتمويلها إسلامي بحت، ولأهداف دينية خالصة لوجه الله، والبعض الآخر يؤكد أن الفكرة ألمانية، خصوصاً أن كبير المهندسين للمشروع الضخم هذا كان الألماني مايسنر، وأن غالبية مستشاري السلطان كانوا أصلاً من الألمان، وأن الهدف من سكة الحديد هذه، هو قطع طريق الحرير، أي الممر التجاري بين بريطانيا ومستعمرتها الأكبر في العالم، الهند.
بريطانيا فهمت اللعبة وعرفت أن مصالحها مهددة، فما كان من وزير المستعمرات إلا أن اتصل بعالمة الآثار أو المستكشفة، كما كانت تعرّف عن نفسها، والمقيمة في الهند آنذاك، غيرترود بيل، وخاطبها بصيغة تشبه: «روحي شوفي شو اللي بصير»، فأجابت: حاضر.
ركبت غيرترود بيل بعيرها وانطلقت من الهند باتجاه بلادنا، وكل ما فعلته لاحقاً، وهو كثير جداً، يمكن للقارئ المهتم أن يطلع عليه بكبسة زر على «غوغل»، لكن ما يهمنا هنا هو جولاتها بين القبائل العربية الممتدة من شمال سورية إلى منطقة حائل ثم إلى البصرة، ولاحقاً إلى سيناء، والكم الهائل من المعلومات المهمة عن عدد الرجال، وعن ولاءات الناس، وعن عاداتهم وما يقبلون وما يرفضون.
هذه المعلومات التي كانت تزود بها الحكومة البريطانية أولاً بأول، والتي استعانت بها الأخيرة فيما بعد في مؤتمر باريس لتوزيع إرث الإمبراطورية، وفي اتفاق سايكس بيكو، ومراسلات الحسين – مكماهون والثورة العربية الكبرى، وفي تقاسم الانتداب بين بريطانيا وفرنسا، وفي ضم الموصل إلى بغداد والبصرة وإنشاء العراق الحديث.
باختصار شديد، لقد ساهمت دراسات وكتب غيرترود بيل في ترسيم خريطة الشرق الأوسط وجزء من الخليج، بعد تفكك أو تفكيك الإمبراطورية العثمانية، سمّه ما شئت. ولو أردنا هنا أن نورد تساؤلاً «خارج السياق» فربما يمكننا طرحه على الشكل التالي: هل تُعد هذه المؤشرات هي ما يؤكد نصر بريطانيا وفرنسا في الحرب العالمية الأولى، وهزيمة ألمانيا والإمبراطورية العثمانية؟ لا شك في ذلك.
يمكن للقارئ التوسع في التاريخ الاجتماعي للمنطقة وانعكاسه على التاريخ السياسي، أو للدقة.. قيادته للتحولات السياسية وتشكيل الدول ورسم الخرائط، من خلال الاطلاع على كتب غيرترود بيل أو ما كُتب عنها وخصوصاً: «رسائل غيرترود بيل»، «ملكة الصحراء.. يوميات رحلة من دمشق إلى حائل على ظهور الإبل»، و»سورية.. البادية والمزروعات».
مثال آخر حديث يمكن الاستعانة به هو الصحافية الأميركية المعاصرة روبن رايت وكتابها «أحلام وظلال.. مستقبل الشرق الأوسط»، ولأنني تناولت هذا الكتاب في كثير من الكتابات السابقة، سأكتفي بالقول، إنه أصبح المرجع المعتمد لسياسة الإدارات الأميركية المتعاقبة تجاه الشرق الأوسط وإيران، وإعادة تشكيل هذه المنطقة من العالم بما يضمن مصالح الأمن القومي الأميركي وأمن الطاقة والممرات التجارية.
وعلى سيرة الممرات فإنه لا يمكن النظر إلى ما جرى ويجري في سورية، وإلى رفع العقوبات عنها في زيارة ترامب إلى الخليج قبل أيام، إلا تحقيقاً لرؤية رايت في كتابها، وهو ما سيؤدي أخيراً إلى مد خط الغاز القطري عبر سورية إلى تركيا، ومنها إلى أوروبا، وذلك رغم أن هذا الخط لم يعد في مصلحة أميركا، خصوصاً بعد أن أصبحت المصدّر الأول للغاز إلى أوروبا منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية، وكذلك بعد تسارع الاعتماد الأوروبي على الطاقة المتجددة بسبب الحرب ذاتها.
وعلى سيرة الممرات أيضاً، فإن مصير قطاع غزة، كنقطة عبور في الكوريدور الهندي الأوروبي، لن يتم حسمه بوجود «حماس» كطرف أو أداة معيقة، ولا بوجود نتنياهو وحكومته كطرف متضرر من اشتراطات تنفيذ هذا الكوريدور، وعلى رأسها حل القضية الفلسطينية. لذلك فلم يأتِ ترامب في زيارته «التاريخية» على ذكر غزة إلا كمأساة إنسانية، وهو لم يلتقَ نتنياهو لذات السبب.
وهذه المأساة الإنسانية لن تتوقف إلا بتهيئة البيئة للممر الدولي الكبير، البيئة التي كان بالإمكان، ولو باحتمال ضئيل، أن تتحقق بمشاركة الشعب الفلسطيني، لو أن لديه طبقة سياسية تعرف ما يدور حولها وتستطيع استغلاله لمصلحة شعبها. لكن ولأن ما لديه ليسوا أكثر من صنّاع للوهم ومروجين لشعارات غيبية عفا عليها الزمن، ولا تصلح في سوق السياسة، فقد قدموه، أي هذا الشعب، ويقدمونه يومياً على مدار سنة ونصف السنة، كأضحية مجانية مقابل اللاشيء.