تشهد المواقع الأثرية في سوريا، وفي مقدمتها مدينة تدمر، موجة غير مسبوقة من النهب المنظم، نتيجة لانهيار الوضع الأمني وتدهور الأوضاع المعيشية.
هذا ما كشف عنه تقرير حديث نشره موقع “يورونيوز”، مسلطًا الضوء على تحول هذه المواقع التاريخية إلى مسرح لعمليات تنقيب غير شرعية، مدفوعة بالجريمة المنظمة وغياب الدولة.
تدمر.. من مركز حضاري إلى أطلال منهوبة
تحولت مقابر تدمر الأثرية، التي يعود تاريخها إلى أكثر من ألفي عام، إلى مواقع مستباحة للتنقيب غير القانوني. عمليات الحفر تمتد لأعماق تصل إلى ثلاثة أمتار، بحثًا عن ذهب وقطع أثرية نادرة، وفق ما وثقه “يورونيوز”.
هذه التنقيبات العشوائية تسببت في تشويه المعالم ودمار للطبقات الأثرية الحيوية التي يعتمد عليها الباحثون لفهم تعاقب الحضارات.
الناشط في منظمة “التراث من أجل السلام”، محمد الفارس، حذر من الخسائر العلمية التي لا يمكن تعويضها نتيجة هذا العبث، مؤكدًا أن ما يحدث هو كارثة ثقافية تهدد هوية سوريا التاريخية.
بعد سقوط النظام.. تصاعد غير مسبوق في النهب
ورغم الدمار الكبير الذي لحق بتدمر أثناء سيطرة تنظيم “داعش” عام 2015، إلا أن موجة النهب الحالية اتخذت أبعادًا أكثر خطورة منذ سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر الماضي.
وبحسب مشروع ATHAR المتخصص بتتبع تهريب الآثار، فقد تم تسجيل ما يقرب من 1500 عملية نهب في الأشهر الأخيرة وحدها، أي ما يعادل ثلث الحالات المسجلة منذ عام 2012.
ويصف الدكتور عمرو العظم، أستاذ الأنثروبولوجيا المشارك في المشروع، الوضع الراهن بـ”حمى الذهب الأثري”، حيث انهارت الضوابط الأمنية وتزايدت سرقة الآثار بشكل جنوني.
فيسبوك… سوق إلكتروني للكنوز المنهوبة
تحولت مجموعات فيسبوك العامة والخاصة إلى منصات نشطة لتجارة الآثار، من عملات نادرة إلى فسيفساء ونُصُب حجرية.
وتشير كايتي بول، المديرة المشاركة في مشروع ATHAR، إلى أن السوق الإلكترونية نشطة كما لم تكن من قبل، حيث تُباع القطع خلال أيام أو أسابيع فقط، بعد أن كانت تستغرق شهورًا في السابق.
وقد وثّق المشروع أكثر من 26 ألف صورة وفيديو توضح حجم هذه التجارة، في حين تضم بعض المجموعات ما يزيد عن 900 ألف عضو، ما يعكس اتساع الشبكات العاملة في هذا المجال.
الحفريات في السلمية… معدات ثقيلة واحترافية مشبوهة
وفي تل الشيخ علي قرب مدينة السلمية، تم توثيق عمليات حفر عشوائية ليليّة يصل عمقها إلى خمسة أمتار باستخدام معدات ثقيلة، ما يشير إلى تورط جهات محترفة تمتلك معرفة تقنية دقيقة. بعض المكتشفات، مثل الفسيفساء بحالة جيدة، توضح أن عمليات النهب ليست عشوائية تمامًا بل تقاد بعناية وخبرة.
من سوريا إلى المزادات العالمية
القطع المنهوبة لا تبقى في الداخل، بل يتم تهريبها إلى تركيا أو الأردن، حيث تُزوّر مستنداتها لاحقًا وتُعرض في مزادات عالمية كأنها شرعية. العديد منها يُباع في أوروبا والولايات المتحدة بأسعار مرتفعة، ما يعكس طلبًا غربيًا متزايدًا على هذه الكنوز المنهوبة.
فشل الرقابة… وفيسبوك في قفص الاتهام
رغم إعلان فيسبوك حظر تجارة الآثار منذ عام 2020، إلا أن التقارير تشير إلى استمرارها بشكل علني، دون أي تطبيق حقيقي للسياسات. تؤكد كايتي بول أن الشركة على علم بحجم المشكلة، لكنها لا تتخذ خطوات فعالة لوقفها.
مسؤولية عالمية ومقاومة محلية
مع تجاوز نسبة الفقر 90% في سوريا، يصعب ردع السكان المحليين عن المشاركة في التنقيب غير الشرعي، خصوصًا في ظل غياب البدائل الاقتصادية. إلا أن الخبراء يشددون على أن الطلب العالمي هو العامل الأهم في استمرار الظاهرة، مطالبين بمحاسبة الجهات الدولية والمزادات التي تشتري هذه القطع.
في ظل غياب الدولة، يبذل السكان المحليون، بدافع وطني وأخلاقي، جهودًا لحماية تراثهم. ويقود محمد الفارس وعدد من سكان تدمر دوريات ليلية تطوعية لحراسة ما تبقى من آثار المدينة، في محاولة يائسة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ذاكرة حضارية مهددة بالاندثار.