أثقلت حالة عدم اليقين المتعلقة بالتجارة وتضخم الدين العام وتراجع الثقة في استمرار الاستثنائية الأمريكية، كاهل الأصول الأمريكية، وكان الدولار الأمريكي الضحية الأولى، ويرى المستثمرون أن العملة تفقد المزيد من بريقها مع عودة الدولار إلى وضعه الطبيعي بعد تقييمات مرتفعة.

دفعت الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة ترامب هذا العام المستثمرين إلى خفض استثماراتهم في الأصول الأمريكية بعد فترة طويلة من الأداء المُتفوق، حيث سجل مؤشر الدولار مع نهاية تعاملات شهر مايو خامس تراجع شهري على التوالي بخسائر تقدر بنحو 0.1% في أطول سلسلة خسائر شهرية منذ عام 2017.

في حين استقرت العملة الأمريكية إلى حد ما في الجلسات الأخيرة إذ تشجع المستثمرون بهدنة في الحرب التجارية المستمرة بين الولايات المتحدة والصين، إلا أنها تعرضت لضغوط بيع متجددة بعد أن خفضت وكالة موديز للتصنيف الائتماني السيادي للولايات المتحدة درجة واحدة، ويعتقد الخبراء أن هناك مجال واسع لمزيد من الانخفاض من منظور التقييم فقط، كما أن “صفقة بيع أمريكا” عادت إلى دائرة الضوء بعد تخفيض موديز للتصنيف الائتماني للولايات المتحدة.

انخفض مؤشر الدولار الأمريكي في سوق تداول العملات بنسبة تصل إلى 10.6% عن أعلى مستوياته في يناير وهو أحد أشد التراجعات خلال ثلاثة أشهر، مما دفع المضاربين إلى بيع الدولار على المكشوف بقيمة 17.32 مليار دولار، وهو ما يقترب من أكبر مركز هبوطي للدولار منذ يوليو 2023، وفقًا لبيانات لجنة تداول العقود الآجلة للسلع (CFTC)، يعود جزء من التراجع في قيمة الدولار إلى تداول العملة عند تقييم مرتفع نسبيًا، حيث بلغ في يناير 22% أعلى من متوسطه لعشرين عامًا البالغ 90.1 على مؤشر الدولار، حاليًا، يحوم المؤشر حول 10% أعلى من متوسطه لعشرين عامًا، وهناك مجال لتراجعه بشكل ملحوظ، فعلى سبيل المثال: سيؤدي انخفاض آخر بنسبة 10% إلى وصوله إلى أدنى مستوياته التي سجلها خلال الولاية الأولى للرئيس “دونالد ترامب”.

مخاوف طويلة الأجل

لطالما اعتبر المستثمرون والاستراتيجيون الدولار مُبالغًا في قيمته لسنوات، لكن المراهنة ضده أثبتت أنها مؤلمة مرارًا وتكرارًا، فمع انتعاش الاقتصاد الأمريكي قد يتغير هذا الوضع قريبًا.

صرح “ستيف إنجلاندر” رئيس أبحاث العملات العالمية لمجموعة العشرة في بنك ستاندرد تشارترد بنيويورك، بأنه على الرغم من أن الترتيبات التجارية الأخيرة قد تُهدئ الأسواق بعض الشيء، إلا أنها لا تُعالج مشكلات الثقة طويلة الأجل التي تواجه الولايات المتحدة.

وقال إنجلاندر: “قصة ضعف الدولار لم تنتهِ بعد”، يشعر المستثمرون بالقلق أيضًا بشأن الوضع المالي طويل الأجل للولايات المتحدة، ويقول المحللون إن مشروع قانون ترامب الشامل لتخفيض الضرائب سيضيف ما بين 3 و 5 تريليونات دولار إلى ديون البلاد البالغة 36.2 تريليون دولار على مدى العقد المقبل.

وقال “جورج سارافيلوس” الرئيس العالمي لأبحاث العملات الأجنبية في دويتشه بنك، في مذكرة: إن مزيجًا من تراجع الإقبال على شراء الأصول الأمريكية وجمود العملية المالية الأمريكية التي تُقيد عجزًا مرتفعًا للغاية هو ما يُثير قلق السوق.

في حين أكدت إدارة ترامب دعمها لسياسة الدولار القوي، فقال المتحدث باسم البيت الأبيض “كوش ديساي”: لقد كان الرئيس ترامب واضحًا بشكل لا لبس فيه بشأن الحفاظ على قوة الدولار الأمريكي كعملة احتياطية عالمية.

الحيازات الأجنبية

على الرغم من عمليات البيع الأجنبية الأخيرة، فإن سنوات من ارتفاع قيمة الأصول الأمريكية تعني أن العالم لا يزال يحتفظ بتريليونات الدولارات من الأسهم وسندات الخزانة الأمريكية، قال مستثمرون إن ضغوط البيع هذه قد تأتي من مختلف أنحاء العالم، مع تركيز المزيد من الناس على فشل الدولار مؤخرًا في أن يكون ملاذًا آمنًا.

قال “بيتر فاسالو” مدير محفظة العملات الأجنبية في بي إن بي باريبا لإدارة الأصول: عمليات بيع الأصول الأمريكية أثارت قلق الناس الذين تساءلوا: إذا لم يعد الدولار عملة ملاذ آمن وإذا لم يعد يُنوّع استثماراتنا، فهل يجب علينا حقًا الاحتفاظ بهذا القدر منه؟.

مخاطر غير محمية

سمحت قوة الدولار على مدى العقد الماضي للمشاركين في السوق بالاحتفاظ بالأصول الأمريكية دون القلق كثيرًا بشأن مخاطر العملة.

مع وجود حيازات أجنبية من الأصول الأمريكية بتريليونات الدولارات، وفقًا لتقديرات البنوك، بما في ذلك دويتشه بنك، فإن أي ارتفاع طفيف في نسب التحوط (وهي الجزء المحمي من التعرض للعملات الأجنبية) قد يؤدي إلى عمليات بيع كبيرة، وتعني زيادة التحوط من قبل المستثمرين انخفاض الطلب المباشر على الدولار وزيادة ضغوط بيعه في أسواق العقود الآجلة.

زادت الاقتصادات الآسيوية بما في ذلك الصين وكوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان من تعرضها للدولار الأمريكي بشكل هائل نتيجةً لاتجاهٍ استمر لعقودٍ من استثمار فوائض تجارية كبيرة في الأصول الأمريكية.

وقد أظهر ارتفاعٌ غير مسبوق في قيمة عملة تايوان لمدة يومين في أوائل مايو للمستثمرين كيف يمكن للاندفاع نحو الدولار الأمريكي أن يُزعزع استقرار الأسواق.

قال ستيفن جين وجوانا فريري من شركة يوريزون إس إل جيه كابيتال في مذكرة صدرت في أوائل مايو، إن ادخار المصدرين الآسيويين والمستثمرين المؤسسيين للدولار الأمريكي والذي يبلغ نحو 2.5 تريليون دولار، يُشكل مخاطر هبوطية حادة على الدولار مقابل هذه العملات الآسيوية، ومع ذلك، فإن إحدى الحجج المضادة لتوقعات هبوط الدولار هي مرونة الاقتصاد الأمريكي، في حال فاجأ النمو الاقتصادي الأسواق بالارتفاع، فقد يُبقي ذلك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي على ثباته لفترة أطول ويدعم الدولار.

ماذا يعني استمرار تراجع الدولار للأمريكيين والعالم؟

لعقود طويلة كان الدولار الأمريكي العملة الفعلية للأسواق الدولية، وبينما يراقب المستثمرون السوق الأمريكية بقلق، يقول خبراء اقتصاديون إن هذا الوضع قد يتغير مما ستكون له آثار كبيرة في الولايات المتحدة وخارجها.

قد يواجه الأمريكيون الذين يأملون في قضاء عطلاتهم في الخارج هذا الصيف مفاجأة غير سارة، لقد كان السفر إلى أجزاء من جنوب أوروبا وسيلةً لتحقيق أقصى استفادة من أموالهم بفضل قوة الدولار، لكن الأمور تغيرت خلال الأشهر القليلة الماضية، فقد انخفضت قيمة الدولار بنحو 9% منذ يناير، مع انخفاض بنسبة 4.5% في أبريل وحده.

تقول “بيلج ارتن” الأستاذة في الاقتصاد والشؤون الدولية بجامعة نورث ايسترن: من الطبيعي أن ترتفع قيمة الدولار وتنخفض كأي عملة أخرى، لكن هذا الاتجاه الأخير مختلف، ومن المرجح أن يكون له تأثير كبير على ميزانية الأمريكيين يتجاوز مجرد نفقات السفر.

تتذبذب قيمة العملة باستمرار، ويعتمد ذلك إلى حد كبير على الثقة في النمو الاقتصادي للبلد والمخاوف بشأن عوامل اقتصادية كالتضخم والسياسات التي تطبقها الحكومات والبنوك، لكن يعزو القيمة الحالية للدولار إلى تداعيات تعريفات إدارة ترامب والحروب التجارية والتخفيضات الضريبية المقترحة فيما يُسمى “مشروع القانون الكبير الجميل”، والتي قد تزيد العجز الفيدرالي بتريليونات الدولارات.

وتقول إرتن: لقد تضافرت العديد من السياسات إلى هذه النقطة التي تتضاءل فيها الثقة في السياسة الأمريكية أكثر فأكثر، من حيث مصداقية إجراءات الحكومة في قدرتها على سداد ديونها، لقد أثار هذا قلق المستثمرين من أن الولايات المتحدة ربما ليست أكثر فئات الأصول أمانًا، وأن عليهم ربما نقل استثماراتهم خارج الولايات المتحدة.

إنها حالة نموذجية للعرض والطلب، حيث دفعت كل هذه المؤشرات المقلقة بشأن مستقبل الاقتصاد الأمريكي المستثمرين إلى بيع السندات، مما أدى إلى انخفاض الطلب على الدولار ودفع قيمته إلى مزيد من الانخفاض مقارنةً بالعملات الأخرى.

توضح إرتن أن الخوف يكمن في أن ضعف الدولار الأمريكي ليس سوى جزء واحد من سلسلة أسباب وتأثيرات قد تؤدي إلى فوضى اقتصادية، وتضيف قائلة: “الجميع على يقين تقريبًا من ارتفاع التضخم، وعندما يحدث ذلك، عادةً ما يكون رد فعل الاحتياطي الفيدرالي هو زيادة طفيفة في أسعار الفائدة للحد منه، ثم يكمن القلق في أن ذلك قد يُضعف النمو الاقتصادي”.

قد تبدو جميع هذه العوامل الاقتصادية بعيدة المنال بالنسبة لمعظم الناس، لكن الأمريكيين سيشعرون بتأثير ضعف الدولار على محافظهم في نهاية المطاف، فما سيحدث الآن مع ضعف الدولار الأمريكي هو أن أسعار جميع السلع المستوردة سترتفع، وسينطبق هذا بشكل مضاعف على الأمريكيين الذين يأملون في السفر إلى الخارج، إن ضعف الدولار الأمريكي يعني أنه لشراء نفس السلع، عليك التخلي عن المزيد من الدولارات في الخارج، مما سيزيد من تكاليف السفر، من ناحية أخرى، سيجد السياح الدوليون في الولايات المتحدة أن عملتهم سترتفع أكثر وستزداد قوتهم الشرائية.

سيمتد التأثير ليشمل معظم السلع المستوردة وتكاليف الرهن العقاري وأقساط السيارات أيضًا إذا استمرت عائدات السندات في الارتفاع وانخفضت قيمة الدولار بشكل أكبر، ومع ذلك، قد يحصل المصدرين الأمريكيين على دفعة مع انخفاض أسعار السلع الأمريكية في الخارج، ونتيجة لذلك، قد يؤدي ضعف الدولار إلى تضييق العجز الفيدرالي، على الرغم من أن البعض غير متأكدين من أن ذلك سيكون له تأثير إيجابي كبير، ففي القطاعات التي تتمتع فيها الولايات المتحدة بالفعل بقدرة تنافسية ليس من الواضح تمامًا ما إذا كانت بحاجة فعلية إلى هذه الدفعة التنافسية.

يتعارض كل هذا الغموض المحيط بالدولار مع سوق مالية عالمية لطالما اعتبرت العملة الأمريكية الخيار الأكثر أمانًا، فالدولار هو أصل الاحتياطي الدولي وتحتفظ كل دولة تقريبًا بالدولار في محفظتها المالية، لدرجة أن 59% من جميع العملات الاحتياطية في العالم هي بالدولار الأمريكي.

هناك مزايا معينة لضعف الدولار بالنسبة للدول المرتبطة بقيمة العملة الأمريكية، وخاصة تلك التي لديها ديون مقومة بها، يقول الخبراء إن ضعف الدولار يعني أن سداد الدين سيكون أرخص قليلاً مما كان عليه في السابق.

ولكن ما يحدث حاليًا يسوده حالة من عدم اليقين، حيث تبحث الحكومات والمستثمرون عن سبل لتقليل الاعتماد الاقتصادي على الولايات المتحدة، فعلي سبيل المثال: هناك بدائل للدولار مثل “نظام احتياطي دولي متعدد الأقطاب”، وهو مزيج من عملات عالمية مختلفة تتخذ موقف قوة وقد تكون مقسمة حسب المناطق، والتي تم النقاش فيها منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، في غضون ذلك، بدأت الصين في تعزيز مكانة عملتها من خلال إبرام اتفاقيات مبادلة عملات مع دول مثل البرازيل.

تسلط الكثير من المحادثات الضوء على مشكلة قائمة منذ زمن طويل: وهو نظام مالي عالمي يعتمد إلى حد كبير على عملة دولة واحدة وقراراتها السياسية، فمثلًا عندما يتخذ الاحتياطي الفيدرالي قراراته، فهي قرارات تخص الاقتصاد الأمريكي فحسب، لكنها تؤثر على جميع الاقتصادات، لأن بقية العالم مرتبط بالاقتصاد الأمريكي لأن الدولار الأمريكي هو العملة المهيمنة، لهذا يريد العالم التخلي عن الدولار الأمريكي لكن حتي الآن لا يوجد بديل جيد له.

المصدر: 3rbteachers.com

شاركها.