هذا هو الفصل الأخير غير النهائي من الجريمة الأمريكية بحق الشرق ، صفحةٌ من كتاب الآلآم العربي بعرض ستين ألف شهيد ، وبطول 2 مليون إنسان يُدفعون إلى الجحيم بكل معانيه ، بشرٌ مثلنا يتم نزع إنسانيتهم ، يعيشون بين الركام والخيام وبرك المياه الآسنة بلا طعام ولا ماء نظيف ولا أية أدوية ، ذُبِح أطفالهم ، قُتلت نساؤهم ، حُرق رجالهم وتمزقت اجسادهم ، يتنقلون كل اسبوع أو آخر قسرا من مكان الى مكان وربما تجاوز الأمر عشرين مرة في أقسى معاني الظلم والانحطاط الإنساني ، في الإضافة الجديدة للجريمة المرعبة تُغري قوات ترامب النازية الجائعين والمعدمين بفخ فئران على هيئة كرتونة من المساعدات بشكل سادي إذلالي بعد تجويعهم لمدة سنتين ، ثم تستدرجهم الى شريط ضيق من الحدود على مرأى ومسمع مصر أم الدنيا كي يتسلى العبريون بإطلاق الرصاص في رحلة صيد الإوز الفلسطيني في موسم الهجرة الموسمية للشرف العربي ، والشعار هنا اقتل جائعا فلسطينيا والثاني مجانا ولا تحفل بأحــد !
على نهاية ممر المساعدات يقف الفوهرر ترامب نحاسي الوجه رافعا يده ممدا أطراف أصابعه ويصيح في وجه شعب غزة : بوراجموس ! نحن لا نبالي بكم ، لا قيمة لكم ، قوانين الإنسانية لا تنطبق عليكم ، يجب حرقكم كي نحافظ على تفوقنا الوجودي ومعالم التحضر ، يجب أن نجوعكم وان نحرق اطفالكم كي نشعر بنشوة التفوق العرقي وسيادة الأبيض ، زيغ هايل نتنياهو ، هايل سموتريتش ، هايل ايتمار! حيال هذا الخطاب الترامبي اليومي من الويلات والموت ترد غزة مثل البحر الهدار ، وتدفع بجندها لتسقط عليهم كسفا من السماء ، ثم يتحول الدخان الصاعد من خان يونس وجباليا إلى جدارية الشعب الفلسطيني التي تستر عورة أمة بأكملها ويملأ أنين العزاء ليالي اسرائيل.
لا نزال نعيش في وعاء الجرائم الأمريكية الصهيونية والخطة الكبرى التي نبدو عاجزين عن تشخيص حدودها وتفاصيلها بالقدرالكافي والأدوات الصحيحة، وفي ظل الشلل والتواطؤ السياسي والعسكري للأنظمة العربية تحولت البلاد إلى منطقة مخصصة لتلقي الصدمات والصفعات واضطراب تموجي فكري في فهم أبعاد المخطط الصهيوني المفتوح الآفاق والاحتمالات ، تم تتويج هذه الفكرة من خلال موجات التطبيل والتهليل الإعلامي الأمريكي والصهيوني عقب إعلان وقف إطلاق النار الذي أعلن عنه الفوهرر في الأسبوع الماضي لإيقاف إطلاق النار بين ايران ودويلة الكيان ، وعلى ما يبدو أن نشوة الشعور بالانتصار وتحقيق قائمة طويلة من وعود حزب الليكود (لشعبه ) تحولت إلى مادة أساسية في تعزيز الرواية الأسطورية الصهيونية حول قوة ومناعة وقدرات شعب الله المختار في الإطاحة بأعدائه وتحقيق أحلامه ، فالمشروع النووي الايراني قد سقط وتمت تصفية قائمة طويلة من العلماء والقيادات ومؤسسات البحث ، البرنامج الصاروخي فقد نصف طواقمه ومؤهلاته ، تم قص اذرع الحلفاء في لبنان وتحويط حزب الله بعد كسره بالجملة وتكبيل يديه واعتقاله دبلوماسيا ، غزة سُحقت تماما ولم تعد تقوى على اطلاق الصواريخ أو تشكل تهديدا ، اليمن تم تهميش قوته وتحجيم فعله من خلال سياسات متنوعة وضربات مؤثرة ، جميع الأنظمة العربية إما راكعة أو مرعوبة أو مصابة بالذهول مما يجري وفقدت القدرة على النطق والفعل ، الطيران الاسرائيلي والأمريكي المعربد هو المهمين والحاكم فوق كل رقعة ويمكنه أن يضرب أينما شاء ، وقتما شاء ، ومن يشاء ، ولا يوجد رادع أو مانع ، فلماذا لا يمكن اعتبار كل هذه الفتوحات بمثابة انتصار كبير لمشروع نتانياهو ترامب ، ولماذ توحي الأمور البعدية بعكس ما تبدو عليه الحقائق الملموسة؟
1 في داخل الرواية السياسية الأمريكية التي يجري تسويقها إعلاميا ومن خلال تصريحات البيت الأبيض يبدو الأمر تبسيطا زائدا عن حده ولا ينطلي إلا على المغفلين فقط ، يريد ترامب المجرم وخطابه أن يفرض علينا الفهم بأن الضربات العسكرية تمثل حلا لمشاكل معقدة وعميقة الجذور في المنطقة ، إن استحضار الدعاية الإعلامية للترسانة الأمريكية والتلويح بطائرات بي 52 وإلقاء قنابل بوزن الأطنان على مواقع معراة من أية حماية ثم الادعاء التهريجي بطرق سخيفة وسطحية بتحقيق النصر المطلق وإزالة الشرور يمثل استغباءا كاملا ، خاصة اذا صاحب ذلك تجاهل عقود طويلة من الظلم والسرقة والاعتداء ونهب حقوق شعوب بأكملها ومراحل كاملة من الخداع الدبلوماسي ، والفشل المتكرر في المنطقة ، إن هذا لا يعد غباءا فقط ، بل غباء يرتقي لمستوى الجريمة القصوى بحق السياسات العالمية.
2إن سياسة وخطط الكيان الصهيوني في تحقيق حلم (الشرق الأوسط الاسرائيلي) أصبحت واضحة المعالم بعد كل هذه الأشواط من الاعتداء على المنطقة العربية ، إنها سياسة تقوم على مبدأين إثنين، الأول هو الاعتداء والقتل والتدمير والاغتيال وضرب القوانين والمعاهدات عرض الحائط لفرض وقائع جديدة، والثاني هو جر الولايات المتحدة وثقلها العسكري والسياسي أينما تم تطبيق المبدأ الأول باستخدام أداوت الضغط الداخلية في الولايات المتحدة ثم تسويق ذلك على أنه متطلبات للأمن العالمي ومكافحة الإرهاب وتحقيق للسلام لتعزيز تلك الوقائع الجديدة ، في الحالة الإيرانية بدأ الصهاينة الإعتداء ولكنهم أيضا هم من طالبوا بوقفه فورا، ليس لأنه حقق أهدافه ، بل لأنه لو استمر القصف الايراني الذي طال ما لم يتم الاعتراف به حتى الان لكان كامل المشروع الصهيوني بكامله في خطر محدق داخليا وخارجيا.
3إن الاعتداء على ايران لم يأت كي يسد فقط عن الفشل الذريع في غزة، ولكنه عدوان ممنهج جاء وفي جوفه عقدة عجزٍ وضعفٍ كبيرين تولدا منذ البداية في غزة، لقد صنع العدو إنجازات كسرية مبتورة في كل من غزة و لبنان وسوريا واليمن ، حزب الله لم ينته أمره ولا وجوده ولا جذوره الفكرية، شعب سوريا ليس مجرد تابع ذيلي في خطط الجولاني والإملاءات الخليجية المحمولة بين يديه، اليمن شعب ثائر لا يهادن ولا يستسلم ، غزة درة التاج المقاوم لا تزال عصية على الانكسار وتحملت بما لا يمكن لأية دولة أن تتحمله من القصف والتدمير والحصار ، إن العدوان على ايران جاء كإعلان مهرجاني كبير الحجم للتغطية على الاخفاقات الكبيرة والفشل في كسر محور المقاومة وكتتويج للأتاوة الصهيونية في المنطقة.
4 إذا كان القصف الإيراني لمدينة يافا المحتلة حطم مناعة العدو ودعايته التكنولوجية والعسكرية ومنح المستوطنين الصورة الحقيقية لمآلهم ومصيرهم الحتمي، فإن غزة كسرت روحه المعنوية وتسببت في تدمير سرديته وقوته الإعلامية وسطوته على الفكرة العالمية تحت شعار معاداة السامية ، إن ما يبدو في ظاهره مكتسبات وانتصارات وتحجيم لأعداء “اسرائيل ” يقابله إخفاق هائل أكبر قيمة على مستوى عالمي في مصداقية الكيان وادعاءاته الحضارية والديموقراطية والانسانية، لقد خسر العدو خسرانا مبينا في كل الأوساط الشعبية العالمية وسقطت مكانته واحترامه القائم على الكذب المطلق وأصبح شيئا منبوذا في كل دولة من دول العالم ولم تعد روايته تجد محلا من القبول.
5يمكن القول بأن القيادة الإيرانية فوتت فرصا عديدة لتوجيه ضربات ردعية قاضية للكيان الصهيوني ودفعه إلى إعادة حساباته بشدة ، أهم هذه الفرص كانت عقب الاعتداء على مواقع النشاطات النووية ، إن ايران قدمت الرد والتأديب المناسب بقصف يافا المحتلة وبعض المواقع الحيوية الضاغطة ، لكن الضربات لم ترتق إلى مستوى التهديد الوجودي أو الردعي للكيان ولم تتعد منطق رد الفعل المحسوب الحجم والكلفة والمسافة الآمنة ، ومثل هذا النوع من الردود وللأسف لا يمكن أن يردع العقلية العداونية الإجرامية لعصابة الكيان وحلفائه في الولايات المتحدة ، بهذا القدر من الردود لا توجد أية ضمانات حمائية للمشاريع الدفاعية الايرانية ، وبهذا فإن ايران ليست خارج دائرة الخطر على الإطلاق والمستهدف الأساسي هو النظام ، إن ايران على موعد مع مخطط متكامل من الاعتداءات وهندسة الفوضى في الداخل والضغوط اللامتناهية لحجز ومنع وايقاف كل تقنية وكل سبيل لتقوية ايران أو اعادة برمجة مشروعها النووي والدفاعي ، المحور الأهم للعب والتخريب هو اسقاط النظام الحاكم وطرح الثورة الاسلامية نهائيا من عقلية المنطقة وجغرافيا العرب ، مخطئ من يظن بان الأمر انتهى وسيعيش الجميع بسعادة وهناء وراحة بال ، إن الانتصار الحقيقي لإيران لن يكون إلا بضربة قاضية او كاسرة لقوى الكيان الصهيوني والتحالف الأمريكي.
6 من الواضح أن الضربات الأمريكية ووفقا لتقارير واستشارات تم نشرها لم تتمكن نظريا من الظفر بشيء حقيقي في المنشآت التي تم قصفها، المشروع النووي الإيراني بخير وعافية وكل ما تم تدميره لا يعد إلا بنايات مفرغة وتجهيزات ليست في صلب التأثير، إن هذه الفكرة ستكون محور الهجمة على ايران والحجة اللازمة لاستكمال العدوان القادم، وما لم تتخذ السلطات الاجراءات المضادة الصحيحة فإن النظام ايراني مهدد بالإزالة بالكامل وزراعة العضو السرطاني المحضر المستعاد من جثة أبيه الشاه.
7إن تغريدة ترامب بالمطالبة بالعفو عن المجرم ترامب في الداخل الصهيوني ووضع حد للقتل داخل غزة يمثل دليلا دامغا على حجم الفشل وراء الكواليس ويؤكد على قرب الاعلان عن فشل المشروع الشرق أوسطي الاسرائيلي والذي سيختتم بمحاولات التطبيع الجديدة التي ستولد ميتة لا محالة ، إن خسائر العدو المعنوية في غزة هي السبب الوحيد لإقدامه على أية تنازلات .
في خضم كل هذه الفوضى تطل علينا هذه الفترة الذكرى المهجورة للهجرة النبوية واسطورة الرحلة التاريخية عندما كان أسلاف بنيامين وأجداد سموتريتش والنسخ القديمة من حراس معبر رفح ونظائر جماعة ابو شباب والأمن الوقائي القريشي ورئيس سلطة عكاظ يطاردون محمدا عليه الصلاة والسلام ليقتلوه ويضعوا حدا للرسالة المحمدية، ثم جاءت العناية الآلهية لتنقذ الرسالة والرسول والمسيرة ، واليوم يعود الأحفاد المسوخ المنتجون من ذات التاريخ وعبر سلاسل طويلة من جينات الغدر والأذى والمؤامرة ليوقفوا الرسالة المحمدية بصيغتها التي خرجت من صندوق حصارهم وغادرت غار حراء لتصبح رسالة الكرامة والعزة الإسلامية في ثوب المقاومة التي تصنعها غزة واليمن وكل من يشارك في محور المقاومة ، كانت كلمات النبي الأمين لصاحبه المذعور من القذائف الخارقة للغار ونسيج العنكبوت: لا تحزن ، فإن الله معنا ! وكان ذلك الإيمان كفيلا باختراق القبة الحديدية لكل عصابة المطاردين وذكائهم ومكرهم وإسقاط كل جبروتهم وتحويله إلى رصيد في ذخيرة الرسالة .
واليوم يا غزة يحاصرونك في غار حراء الكبير وتتحول شباك العنكبوت القديم إلى ايمانك الكبير الذي لا تفله كل سيوف الحلفاء، ليقتلوك أو يردونك عن دينك العظيم ، لكنك تهمسين في قلوب كل العرب الشرفاء وكل الأحرار في هذا العالم وكل من يقاتلون معك : لا تحزنوا فإن الله معنــــا !
سنعود إليك ، سنعود إلى خراباتك المقدسة التي تتوهج طهرا ومقاومة وتسطع مثل النجم في عز الظهيرة، سنعود إليك كي نقاتل معــا ، حتى النهاية، وننتصر معـــا أونموت معــا، سنعود إليك يا كتائب النار والبطولة ، سنعود لنقف مع صفوف الجائعين ونتلقى الرصاصات من اجل حفنة من طحين أو قبضة من سكر، سنعود إليك يا غزة العالمية، يا وجه الشرق المشرق ويا أرض الحرية لنقول لك نفس الرسالة ونفس ما قاله الرسول الأمين لصاحبه المحاصر : لا تحزني فإن الله معك !
كاتب عربي فلسطيني