كتبت د. ميساء المصري:
ليس فقط في عام 2025 بل منذ أن عبر الفلسطيني حدود المنفى قسرًا عام 1948، لم يكن يدري أنه سيُخلع من وطنه مرتين، الفلسطيني لم يُخلع فقط من وطنه على يد الإحتلال، بل خُطف مجددًا على يد أنظمة عربية رفعت صوته كشعار، لكنها سحقته كواقع. تحوّل إلى أداة تفاوض، إلى بندٍ في بيانات القمم، إلى صدى يُبجَّل في الخطب، ويُنكَر في المواقف. لم يُدمج كمواطن، ولم يُحمَ كلاجئ، ولم يُعد إلى وطنه لم تفتح الأبواب، وظلّهو ومفتاحه معلقًا في هوامش الجغرافيا والهوية، مطرودًا من التأريخ ومن الحاضر.
بلاد العرب التي تغنّت بـ”الوحدة”، رفضت أن تمنحه الحد الأدنى من الحياة الكريمة. لا تملّك، لا جنسية، لا عمل في مؤسسات الدولة. بقي في المخيمات، خلف الأسلاك والوعود، يُحاسَب على وطنه المفقود كمتهم. أكثر من 40 مليون لاجئ فلسطيني في العالم حسب إحصائيات 2024، في لبنان، يعيش أكثر من نصف مليون فلسطيني في وضع قانوني هشّ، محرومون من أكثر من 70 مهنة. في الأردن، تُقسّم هويات عائلات بين رقم وطني و بدون ، ليبقى شطر منهم رهينة قانون. في سوريا، وبعد الزلزال السياسي والعسكري، بدأ تحوّل خطير قد يتكرر حيث الفلسطينيون لم يعودوا لاجئين فلسطينيين، بل أجانب مقيمون. حتى وثائقهم أصبحت تحمل خانة أجنبي،مع الإشارة إلى أننا نتحدث عن أكثر من نصف مليون لاجئ كذلك ، في إشارة قانونية إلى تحوّلهم من أصحاب قضية إلى عبء . وكذلك لا نغفل ما حصل لهم في العراق والكويت وليبيا وغيرها من الدول..
ما يحدث ليس مجرد خطأ تقني، بل صفقات في العتمة ، سياسة جديدة تصوغها مراكز القرار في الغرف المغلقة. وثائق تسربت من مصادر مختلفة تُشير إلى خطط لتفريغ المنطقة من الفلسطينيين تدريجيًا، عبر التهجير القانوني،والمسار المقبول وتغيير الأوضاع المدنية، وإقصائهم عن المشاركة في الحياة العامة. في المقابل، يُشرّع الباب لمنح المقاتلين الأجانب جنسيات بديلة، كجزء من صفقة أوسع مع قوى إقليمية ودولية تهدف إلى إعادة رسم المنطقة تحت عنوان الأمن والسلام والتطبيع.
وفي خضم هذا التحوّل، بات الفلسطيني يُقدَّم في الإعلام العربي بصورة المنافس، أو الطامع في خيرات الوطن، في محاولة لتأليب الرأي العام عليه، وتجريده من أي تعاطف شعبي. لقد تحوّل إلى خصم غير معلن في سوق العمل، والتعليم، والسكن، حتى في العواطف العامة. لم يُطرح كشريك، بل كحِمل، كرقم إضافي في معادلة ديموغرافية حسّاسة.
الأنظمة العربية استغلّت الفلسطينيين على أكثر من مستوى. بإسمهم، وُقّعت اتفاقيات المساعدات الدولية. بإسمهم، نُظّمت مؤتمرات مانحين، وبإسمهم افتُتحت صناديق دعم ومعونات وتأهيل . لكن الفلسطيني لم يُشرك في رسم تقرير مصيره. بقي في هوامش السياسة، ومخيمات القهر. لم يُستثمر في تعليمه إلا بشكل يخدم الدول المضيفة، ولم يُمحَ اسمه من لوائح “المقيم الأجنبي”، إلا حين استُخدم كورقة ضغط في مفاوضات خلف الطاولات.
حتى وكالة “الأونروا”، التي يفترض بها حماية حقوقه، باتت مهددة بالإغلاق تحت ذرائع التمويل والسياسة. ومع ضعف الوثائق، وتشتت ملفات اللاجئين تحت حجة قضية انسانية والعمل على إلغاء صفة توريث كلمة اللاجئ ، يصبح طمس الهوية أسهل، ويصبح الفلسطيني أقرب لأن يُمحى من السجلات، قبل أن يُمحى من الأرض.
ad
ما يجري هو عملية تهجير ثالثة قانونية ناعمة، أكثر خطورة من الأولى والثانية. الأولى كانت عسكرية، الثانية كانت سياسية، وهذه تُعيد صياغة الخريطة السكانية للمنطقة.وما يجري هو الهزيمة السابعة للخذلان العربي ، و لا بد للعرب الذين تبقوا ان أرادوا التحرك الدولي القانوني برفع قضايا أمام المحاكم الدولية لتصنيف ما يحدث كـ”تهجير قسري”، ومطالبة الأمم المتحدة ومجلس الأمن بوقف الإجراءات المخالفة لإتفاقيات جنيف. والتنسيق العربي الموحّد، لا بد أن تتفق الدول ذات العلاقة (لبنان، الأردن، مصر، وسوريا) على صيغة قانونية تضمن حماية الفلسطيني، ومنع تحويله إلى أجنبي..لان الهدف ليس إرجاعه الى وطنه بل نفيه للمجهول .ويجب تثبيت الهوية والأرشفة يجب أرشفة بيانات اللاجئين ضمن قاعدة مركزية تحت إشراف “الأونروا”، وربطها بمنصات قانونية دولية لحماية مستقبلهم القانوني.
الفلسطيني اليوم هو مرآة تأريخ مرير، تحمل في أعماقها صرخات الختيار الذي ما زال يعلق مفتاح بيته في قلب الغربة، وصمت أحفاده الذين لا يعرفون سوى صفحات الألم والحرمان. هذه ليست قضية وطنية أو نزاعًا حدوديًا فقط، بل هي جرح إنساني لا يمكن أن يُداوى إلا بالعدل والإعتراف والكرامة وعهد ووصية للحريات، ونداء لإنهاء زمن الخطف المزدوج الذي عاشه هذا الشعب العظيم..
إذا استمرت الدول العربية في سياسة التجاهل والتمييز وتهميش الحل ، فإن الفلسطينيين سيبقون أسيرين لمآسي لم تكتب نهايتها بعد، وورقة في لعبة كبيرة تلهب بها المصالح وتُهمش بها حقوق الإنسان. الحل الحقيقي لا يكمن في التكتيكات السياسية المؤقتة، بل في التوحيد القانوني والإنساني الذي يعيد للفلسطيني كرامته ويؤمن له مستقبله.
على المجتمع الدولي أن يتحمل مسؤولياته، وعلى العرب أن يدركوا أن القضية الفلسطينية ليست مجرد شعارات تُرفع في المناسبات، بل هي اختبار لقيم الإنسانية والعدالة. فلا عودة حقيقية بلا اعتراف كامل، ولا كرامة بلا مواطنة، ولا مستقبل بلا حقوق متساوية.
الفلسطيني هو طريق خذلان طويل. لم يُطرد فقط من وطنه، بل من كرامته أيضًا. يحمل مفتاحًا بلا باب، وهوية بلا دولة، وأملًا يذبل تحت وعود لم تُحترم. القضية لم تعد فقط صراعًا سياسيًا، بل امتحانًا أخلاقيًا للضمير العربي والعالمي. فالفلسطيني لم يُهجَّر فقط بالقوة، بل يُمحى حاليًا بالقانون والتواطؤ الإقليمي والدولي
و إذا بقي الحال على ما هو عليه،. فلن نخسر فلسطين فقط، بل سنخسر آخر ما تبقّى من المعنى الكرامة.
كاتبة من الأردن ومختصة في الشؤون الإستراتيجية