تقترب حرب الإبادة والتطهير العرقي التي يتعرض لها شعبنا في غزة من إكمال عامين، في سابقة لم يشهدها التاريخ الحديث من حيث حجم العنف والدمار، واستمرار آلة القتل بلا توقف. لقد تخطت هذه الحرب كل حدود المنطق والإنسانية، وباتت عنواناً صارخاً لانتهاك القانون الدولي والشرعية الأخلاقية، في ظل صمت دولي فاضح أو تواطؤ معلن أحياناً.
منذ فترة، تتوالى الأخبار والتصريحات عن مفاوضات تهدف إلى الوصول إلى هدنة وإدخال مساعدات إنسانية، وسط تسريبات تتحدث عن مساعٍ أميركية نشطة، لا سيما من الإدارة الأميركية الحالية التي عادت إلى الواجهة بدعم واضح لهذا التوجه، في ظل حالة الارتباك الإقليمي والدولي أمام طول أمد الحرب وكارثية نتائجها.
لكن القراءة المتأنية لمواقف جميع الأطراف المعنية تكشف بوضوح أن ما يُطرح على الطاولة لا يتجاوز فكرة هدنة مؤقتة وليس وقفاً حقيقياً لهذه الحرب الإبادية. فإسرائيل ما زالت تصرّ على شروطها الأمنية والسياسية الصارمة، بدعم أميركي معلن أو ضمني، في حين تُبقي الإدارة الأميركية والتدخلات الدولية على سقف تفاوضي لا يقترب إطلاقاً من إنهاء الاحتلال أو رفع الحصار بشكل كامل، بل يدور حول “ترتيبات أمنية” و”ضمانات إسرائيلية” أكثر مما يدور حول حقوق شعبنا وأمنه وكرامته.
ولعل ما نراه ونقرأه من تصريحات ورسومات حول خريطة الإنسحاب، تشير بما لا يدع مجالاً للشك، أن إسرائيل تتفاوض ضمن رؤية هي التي تحدد خطوطها ومرجعيتها، وقائمة على مبدأ اقضام قطاع غزة وبقاء فكرة التهجير من ضمن أهم مبادئ رؤيتها.
إن تجربة شعبنا المريرة مع إسرائيل خلال العقود الماضية، وليس فقط خلال حرب التطهير العرقي وما دار خلالها من مفاوضات لإنهائها، تؤكد حقيقة واحدة: إسرائيل تستخدم الهدنة كأداة لإعادة ترتيب أوراقها الميدانية والسياسية، لا كمدخل حقيقي لإنهاء العدوان وهذه الإبادة أو رفع الحصار أو الاعتراف بالحقوق الوطنية. وهذا ما يدفعنا إلى القول إن كل ما يجري حتى اللحظة لا يصب في مصلحة شعبنا إذا بقيت الأمور على ما هي عليه. وفي هذا السياق، تبرز مسؤولية وطنية كبرى على حركة حماس.
إن أي هدنة قادمة لا ينبغي أن تكون مجرد استراحة قصيرة لإسرائيل تلتقط فيها أنفاسها، بل يجب أن تكون فرصة سياسية لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني.
وهنا لا يكفي الحديث عن شراكة وطنية أو إصلاحات شكلية، بل تفرض اللحظة التاريخية خياراً أكثر جرأة وصراحة: انسحاب حماس من المشهد السياسي والإداري في غزة، والتنحي طوعاً وتسليم كامل إدارة القطاع والملف الفلسطيني للسلطة الفلسطينيةبكل ما يحمل ذلك من تحديات داخلية وخارجية، في إطار اتفاق وطني شامل.
إن مثل هذه الخطوة، باتت اليوم ضرورة وطنية قصوى. فالحرب الدائرة لم تعد تهدد فقط حياة أبناء شعبنا، بل باتت تهدد كينونة وجود شعبنا الفلسطيني برمته، في ظل مشاريع التهجير الجماعي التي تخطط لها إسرائيل، وتحظى بموافقة ضمنية من واشنطن. وإذا استمرت الانقسامات الفلسطينية، ستجد إسرائيل الذريعة لمواصلة حرب التطهير والتهجير، بحجة القضاء على حماس، بينما الحقيقة أن الهدف يتجاوز الحركة إلى اقتلاع الوجود الفلسطيني بأسره من غزة، وربما أبعد من ذلك.
إن شعبنا في غزة اليوم لا يحتاج مجرد هدنة مؤقتة، بل يحتاج وقفاً كاملاً للحرب، ورفعاً للحصار، وضماناً حقيقياً لحقوقه السياسية والإنسانية. وهذا لن يتحقق إلا بوحدة الموقف الفلسطيني خلف مشروع وطني جامع، ينهي التفرد من قبل حركة حماس بشؤون مصير شعبنا في غزة، ويعيد القضية الفلسطينية إلى مركز اهتمام العالم.
فالهدنة وحدها لا تكفي… إن لم تكن جسراً نعبر عليه نحو الحرية والوحدة والكرامة، وحتى الوجود ذاته.