حروب العشرية الثالثة (39)…

2025 Jul,29

تصدّر اسم العشائر الأخبار مرتين في الآونة الأخيرة: عندما لعبت دور مخلب القط في هجوم ميليشيات النظام الجديد في سورية على السويداء، وعندما أعلنت النفير العام في سورية وخارجها، دفاعاً عن النظام المذكور. ولعل في أمر كهذا ما ينفتح على أسئلة كثيرة منها: هل توجد معطيات كافية عن البنى القبلية والعشائرية في المشرق العربي على نحو خاص؟ وهل يمثل صعودها في الحالة السورية تجسيداً طبيعياً لصراعات اجتماعية، أم هي مجرد أدوات يجري تفعيلها من جهات محلية وإقليمية ودولية تقاطعت مصالحها؟ وما العلاقة بين البنية العشائرية ومكوّنات السلطة في تجربة الدولة الحديثة في الحواضر الشامية، والمصرية والعراقية والمغاربية واليمانية؟

هذه أسئلة متعددة الطبقات، لا تقبل التعميم، أو تُختزل في إجابة واحدة. ولن يكون التفكير فيها مجدياً ما لم نضع في الاعتبار أن التفكير في أمر ما يصدر عادة عن مسلّمات، أو معطيات مُسبقة، تمثل الإطار العام، بقدر ما تزوّدنا بالأدوات والمفاهيم. والواقع أن جانباً كبيراً من المفاهيم المتداولة بشأن بنية المجتمعات العربية يعود إلى نشأة العلوم الغربية ذات الصلة بمجتمعات المشارقة والعثمانيين في زمن الفتوحات الاستعمارية، وفي السياق العام لمعادلة العلاقة بين المعرفة والسلطة، حسب الصياغة البديعة لطيّب الذكر إدوارد سعيد.
لا أزعم اطلاعاً كافياً على النسيج الاجتماعي للحواضر العربية، ولكنني أزعم معرفة كافية بالمفاهيم التي أسهمت في فهم المستوطنين اليهود الأوائل، وحتى الآن، للمجتمع الفلسطيني، والتي نشأت كتتويج لها علوم الاجتماع والتاريخ والسياسة المعنية بدراسة مجتمع وتاريخ وسياسة الفلسطينيين، في الأكاديميا ودوائر الأمن الإسرائيلية.
كانت الفرضية الرئيسة في هذا الشأن هي تراتبية مركزيات تبدأ من القرية، وتمر بمركزية العشيرة، وصولاً إلى مركزية العائلة. وقد ساد الاحتكام إلى هذه الفرضيات على الرغم من وجود شواهد تدل على خلل الخلط بين المجتمعات الريفية والمدينية، والفشل في، أو التعامي عن، رصد عمليات التحديث، والتحوّلات الاجتماعية منذ حملة إبراهيم باشا، وفتح بلاد الشام في وجه القنصليات والإرساليات الأجنبية.
وما يعنينا، في هذا الشأن، أن مركزيات القرية، والعشيرة، والعائلة، تحوّلت إلى مدخل لبلورة آليات اختراق المجتمع الفلسطيني، والسيطرة عليه. وبهذا المعنى يبدو كتاب عالم الاجتماع الإسرائيلي أوري رام «جدول الأعمال المتغيّر لعلم الاجتماع الإسرائيلي» مرجعاً فائق الأهمية، رغم صدوره قبل ثلاثة عقود.
على أي حال، انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي سياق التعقيب على إعلان النفير العشائري، ملاحظات بشأن نجاح محمد علي في هندسة المجتمع المصري بطريقة أخرجت مركزية القبيلة من النسيج الاجتماعي المصري. وعلى الرغم من صعوبة التحقق من فرضية كهذه بالنفي أو الإثبات، إلا أنها تفتح الباب على أمرين هما البنية الاجتماعية كهندسة لا كمعطى سابق، والثاني الصلة الوثيقة بين البنية الاجتماعية، وبنية النظام السياسي.
ومع هذا كله في البال، يمكن تحليل العلاقة بين البنية الاجتماعية والنظام السياسي في الحواضر العربية بالتخصيص لا بالتعميم. فكل حالة منها فريدة على الأرجح. ويمكن، بالقدر نفسه، تحليل البنية الاجتماعية كهندسة على خلفية الصراعات المحلية والإقليمية والدولية في هذا البلد أو ذاك. والواقع أن العراق وسورية يقدمان نموذجين على قدر كبير من الأهمية. فقد نجمت الميول الجمهورية في البلدين نتيجة التحوّلات الاجتماعية والسياسية المتسارعة بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، كما أُخضع المجتمعان السوري والعراقي لعمليات هندسة استمرت حتى سبعينيات القرن الماضي، التي استقر فيها الحكم لحاكمين تملكتهما أوهام إنشاء سلالات حاكمة، وتسبب كلاهما في خراب بلاده.
المهم، أُعيد الاعتبار للبنية القبلية، في سبعينيات القرن الماضي، بدرجات ووتائر متفاوتة، وبلغت كلتاهما ذروة غير مسبوقة بعد الغزو العراقي للكويت، وبعد اندلاع الثورة على نظام آل الأسد في الموجة الأولى للربيع العربي.
وطالما أن انهيار الحواضر العربية يبدو تعبيراً متداولاً ومألوفاً هذه الأيام، فإن المضامين المحتملة لهذا التعبير تنطوي على دلالة صعود مراكز كانت دائماً على هامش العالم العربي. ولا يعنينا من شأنها في الوقت الحاضر سوى أنها ذات بنية قبلية بامتياز، وأن العلاقة بين البنية الاجتماعية ونظامها السياسي عضوية، وإذا كان ثمة من هندسة اجتماعية فهي مقلوبة في كل الأحوال، أي تستهدف تكريس المركزية القبلية لا التحرر منها، ومن تأثيراتها السلبية على عمليات بناء الدولة الحديثة.
وبقدر ما أرى، لن تكون «فزعة العشائر» مفهومة، إلا في السياق التاريخي لتطوّر العالم العربي، وما أطلق عليه مالكولم كير الحرب الباردة العربية – العربية، التي اجتاحت العالم العربي في الستينيات، وكانت موازية للحرب الباردة بين المعسكرين الكبيرين على صعيد العالم. نشأت رابطة العالم الإسلامي، وفكرة تحويل الإسلام نفسه إلى أيديولوجيا في الحرب ضد الناصرية، والقومية العربية الصاعدة، في ذلك الزمن.
من سوء الحظ بطبيعة الحال، أن الماضي لا يمضي، بل يتشكّل كميراث ثقيل. وبهذا المعنى، وفي ظل صعود المراكز الطرفية، ينبغي التذكير بفرضية العلاقة بين البنية الاجتماعية وبنية النظام السياسي، والتذكير، أيضاً، بحقيقة أن الأسئلة التي افتتحنا بها هذه المعالجة، وما تنطوي عليه من دلالات وتداعيات، تعود إلى الواجهة، وتحتل مركز الاهتمام لدى لاعبين محليين وإقليميين ودوليين. يبدو أن العشائر (سواء بوصفها كتلة اجتماعية عضوية أو مصطنعة) صارت مرشحة لتكون حزب الإبراهيميات الجديد، وميليشياتها العابرة للحدود. فاصل ونواصل.

شاركها.