في ظل معاناةٍ مستمرة منذ عقود، لم يعد السؤال “متى ينتهي الاحتلال؟” هو الأهم، بل أصبح السؤال الأكثر إلحاحًا: إلى ماذا يحتاج الفلسطيني اليوم؟

الإجابة لا تُختزل في شعارٍ عابر أو بيانٍ أممي. فالفلسطيني، الذي سئم الوعود والتصريحات، لم يعد يُعوّل على ما يقوله المجتمع الدولي، ولا ينتظر خلاصه من قرارات سياسية لا تُنفَّذ.

ما يحتاجه الفلسطيني اليوم هو منظومة متكاملة من الحقوق، والكرامة، والعدالة—منظومة تبدأ من الداخل: من وحدة الصف، ومن مؤسسات تحترم إرادته، ومن فضاء يتيح له أن يحلم ويعيش بكرامة.
وتتّسع هذه المنظومة لتتجاوز حدود الوطن، وصولًا إلى اعترافٍ عالميٍ بحقوقه، وإلى موقف دولي لا يساوي بين الجلاد والضحية.

أولًا: الفلسطيني يحتاج إلى حياة

نعم، ببساطة… إلى حياة.

حياة دون تهديد دائم، دون اجتياحات، دون أن يخشى أبناؤه الذهاب إلى المدرسة، أو أن تتحوّل ابتسامته إلى خبر عاجل.
يحتاج إلى سقفٍ آمن، وماء نظيف، وهواء لا يعجّ برائحة البارود. والقنابل
يحتاج أن يعيش كما يعيش أي إنسانٍ آخر على وجه هذه الأرض… دون استثناء، وأن يتحرّك بحرية داخل وطنه.

يريد أن يعيش، أن يسافر، وقبل أن يغادر إلى الخارج، يريد أن يتنقّل في أرضه دون قيد أو إذن.
الفلسطيني لا يريد الحواجز، ولا أن يُسأل قبل كل تحرك: كيف الطريق اليوم؟

يريد أن يذهب إلى عمله دون أن يخشى طائرة، أو قصفًا، أو حاجزًا يوقف يومه ويُهين كرامته.
يريد أن يزرع أرضه، ويأكل من محصوله، ويُخطّط لمستقبله دون أن تقطع حلمه الحرب، أو تُصادره سلطة، أو يغتاله الاحتلال.

الفلسطيني يريد أن يعيش التطوّر الطبيعي للحياة:…
أن يرى أبناءه وأحفاده يكبرون أمام عينيه، أن يرافق خطواتهم وهم يحلمون، يتعلمون، يبنون، ويعيشون بسلام.يريد أن يواكب مسار الحياة كما يعيشها البشر في كل مكان، لا أن يُقتلع وعائلته من الوجود دفعةً واحدة.

ثانيًا: الفلسطيني يحتاج إلى وقف الحروب

لم يعد بالإمكان أن تستمر آلة الحرب في التهام أرواح الأبرياء دون مساءلة.

الحرب الأخيرة على غزة لم تكن مجرد حملة عسكرية، بل كانت كارثة إنسانية بكل المقاييس.

في كل بيت غزّي شهيد، في كل شارع ركام، وفي كل قلب لوعة.

الفلسطيني يحتاج إلى نهاية لهذا المسلسل الدموي، إلى وقفٍ فوري ودائم لإطلاق النار، يحفظ للناس حقهم في الحياة لا أن تكون استراحة استعدادًا لجولة جديدة من الموت.

وقف الحرب حق، لا مكرمة، وخطوة لا تُنهي النضال، بل تمنح الناس فرصة للحياة والتشبث بالأمل

ثالثًا: الفلسطيني يحتاج إلى وحدة داخلية

الانقسام لم يكن يومًا خيارًا شعبيًا. الفلسطيني، الذي أرهقه الاحتلال، لا يريد أن يُنهكه الانقسام أيضًا.

يحتاج إلى قيادة موحّدة، ورؤية مشتركة، ومشروع وطني جامع، يعلو على الفصائل والمصالح، ويعيد له ثقته بأن صوته ليس تائهًا في زحام الحسابات السياسية.

رابعًا: الفلسطيني يحتاج إلى دولة قانون وديمقراطية حقيقية

من دون نظام سياسي عادل، تبقى الحقوق معلقة، والمستقبل غامضًا.

يحتاج الفلسطيني إلى دولة تُدار بقوة القانون لا بقوة الأشخاص، إلى مؤسسات تُبنى بالكفاءة لا بالولاءات.

يحتاج إلى نظام ديمقراطي حيّ، تُجرى فيه الانتخابات بانتظام، يُحاسَب فيه المسؤول، ويُصان فيه حق التعبير. وفي غياب الديمقراطية، تضيع الثقة، وتُغلق أبواب التغيير.

خامسًا: الفلسطيني يحتاج إلى عدالة دولية حقيقية

الفلسطيني لا يطلب شفقة، بل يطلب عدالة.

يريد أن يرى أن دماء أطفاله تُقابل بإدانة، لا بتبرير، وأن تقف المؤسسات الدولية إلى جانبه، لا أن تساوي بين الجلّاد والضحية.

يريد أن يشعر أن العالم يسمع صرخته كما سمع غيره، ويتحرك لنصرته كما تحرك لغيره.

يريد أن يرى مجلس الأمن ينعقد من أجل وقف الحرب والمجاعة في غزة، لا أن يُستخدم كمنصة لشرعنة تجويع المحاصَرين.

لقد رأى الفلسطيني كيف تحرّك العالم سريعًا من أجل أوكرانيا، كيف سُميت الأشياء بأسمائها: “عدوان”، “احتلال”، “جرائم حرب”.
ورأى في المقابل كيف تُغضّ الأبصار عن معاناته، وتُعقّد اللغة حين يكون هو الضحية.

ازدواجية المعايير تُقصي الفلسطيني من دائرة الإنسانية التي يوزَّع فيها التعاطف والحق بالتساوي.

الفلسطيني اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بحاجة إلى عدالة لا تنتقي ضحاياها، ولا تخضع لموازين القوى، بل تنحاز لميزان الحق والكرامة.

سادسًا: الفلسطيني يحتاج إلى أمل

الأمل ليس ترفًا… هو طوق نجاة.

في كل بيت فلسطيني حكاية أمل محاصر:
أمّ تنتظر ابنها من الأسر،
أبٌ يبني بيتًا رغم خطر الهدم،
طالبٌ يحلم بالدراسة والتعلّم والسفر، ليعود حاملًا العلم والأمل إلى وطنه الذي لم يغادر قلبه يومًا.

الفلسطيني يحتاج إلى رواية جديدة تؤمن له أن الغد يمكن أن يكون أجمل، أن الدم لا يكون دائمًا قدرًا، وأن الحرية ليست حلمًا بعيدًا.

سابعًا: الفلسطيني يحتاج إلى نفسه

نعم، يحتاج إلى أن يثق بقدرته، بثقافته، بإرادته، بصوته، بمقاومته.

أن يعرف أن وجوده ليس خطأً، بل حقيقةً متجذّرة تشهد لها كل أرض سار عليها وكل زيتونة ظلّلته.

أن يعرف أن صموده فعلٌ سياسي، وصوته فعلٌ مقاوم، وروايته هي الحقيقة الوحيدة التي تفضح الزيف.

الفلسطيني اليوم لا يطلب المستحيل، بل يطلب ما تطلبه كل شعوب الأرض:
أن يعيش بكرامة،
أن يحلم بحرية،
وأن يُحترم كإنسان.

ربما تختلف الأجندات، وتتناقض السياسات، وتتبدل المواقف…
لكن الثابت أن الفلسطيني سيبقى، لأنه ببساطة يعرف جيدًا ما يحتاج:

الحرية… بكل أشكالها.

شاركها.