أعاد تحقيق استقصائي تسليط الضوء على واحدة من أبشع الجرائم التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي خلال عدوانه المتواصل على قطاع غزة، حين قصف محيط مستشفى ناصر بمدينة خانيونس في 25 آب/ أغسطس الماضي، ما أسفر عن استشهاد 23 فلسطينياً بينهم صحفيون، وإصابة العشرات.
كشف التحقيق تناقضاً واضحاً بين الرواية الإسرائيلية التي زعمت استهداف ‘كاميرا تابعة لحماس’ وبين الحقائق الميدانية التي أثبتت أن الضربة أصابت كاميرا لرويترز كانت مثبتة على سطح المستشفى لتغطية الأحداث.
هذا التناقض يثير تساؤلات خطيرة حول نوايا الاحتلال واستهدافه المتعمد للصحفيين والمرافق الطبية، في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني.
مستشفى ناصر تحت النار يقع مستشفى ناصر في قلب مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، ويُعد ثاني أكبر المستشفيات في القطاع المحاصر. منذ بداية الحرب في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تحول المستشفى إلى نقطة مركزية لاستقبال آلاف الجرحى والنازحين، ما جعله هدفاً مباشراً للاحتلال الذي كثف ضرباته الجوية في محيطه.
في صباح 25 آب/ أغسطس الماضي، شنّت طائرات الاحتلال الإسرائيلي غارة مركّزة أصابت سطح مبنى المستشفى، لتخلف دماراً واسعاً في محيطه وتؤدي إلى مجزرة بشرية بحق المدنيين الذين لجأوا إليه طلباً للأمان.
عقب ساعات من الهجوم، خرج الناطق باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي ببيان رسمي قال فيه إن الضربة الجوية استهدفت ‘كاميرا مراقبة تابعة لحركة حماس’ كانت مثبتة على سطح مستشفى ناصر، مدعياً أن الفصائل تستخدم هذه الكاميرات لمتابعة تحركات الجيش وتنسيق عملياتها.
وأضاف البيان أن ‘العملية نُفذت بدقة عالية، وبما يتماشى مع قواعد الاشتباك والقانون الدولي’. وأشار المتحدث إلى أن الجيش ‘سيواصل استهداف كل الوسائل التي تستخدمها حماس لأغراض عسكرية حتى لو كانت مموهة بأغطية مدنية’.
لكن هذه الرواية لم تصمد أمام الحقائق التي جمعتها، خاصة أن الكاميرا التي جرى استهدافها كانت تعود للوكالة وتُستخدم حصراً في تغطية الأحداث الميدانية.
في تقرير موسع، أكدت الوكالة أنها أجرت تحقيقاً داخلياً حول الهجوم، راجعت خلاله الوثائق الخاصة بالكاميرا المستهدفة، كما تحدثت إلى شهود عيان وصحفيين محليين ومسؤولين صحيين في غزة.
وأظهرت النتائج أن الكاميرا التي جرى تدميرها على سطح المستشفى تعود لرويترز، وأنها كانت مثبتة منذ أسابيع لتوثيق الاعتداءات الإسرائيلية في المنطقة.
وأوضحت الوكالة أن الكاميرا لم تكن مرتبطة بأي جهة عسكرية، ولم تُستخدم في أي نشاط غير صحفي.
وذكرت أن الصحفيين الفلسطينيين الذين كانوا يعملون على تغطية الأحداث من الموقع قُتلوا أو أصيبوا في القصف ذاته، ما يعزز فرضية الاستهداف المتعمد للإعلاميين.
قال أحد الأطباء العاملين في مستشفى ناصر: ‘لقد اعتدنا على أن يكون المستشفى ملاذاً آمناً، لكن إسرائيل حولته إلى هدف عسكري. في ذلك اليوم لم تُستهدف فقط حياة المرضى والجرحى، بل حتى أعين العالم التي تنقل الحقيقة’.
وأكد أحد المسعفين الناجين أن القصف جاء مفاجئاً ودون أي إنذار مسبق، مضيفاً: ‘رأيت الكاميرا التي كانت على السطح تتناثر إلى قطع، ثم علمنا أن زملاء صحفيين قد استشهدوا’.
لم يكتفِ جيش الاحتلال الإسرائيلي ببيان أولي، بل حاول لاحقاً تبرير الضربة بطرق مختلفة. ففي مقابلة مع صحيفة عبرية، قال ضابط عسكري إن الهدف كان ‘منع حماس من استخدام وسائل الإعلام لتبرير عملياتها’.
بينما صرّح آخر بأن ‘الضربة رسالة تحذير بعدم استغلال المستشفيات لأغراض استخبارية’. لكن الوكالة واجهت المتحدثين العسكريين بالأدلة، بما في ذلك الصور والفيديوهات التي تُظهر الكاميرا التابعة لها، ما أجبر الجيش على التراجع جزئياً عن ادعاءاته، مكتفياً بالقول إن ‘التحقيق لا يزال جارياً’.
وفقاً لاتفاقيات جنيف، تُعد المستشفيات مناطق محمية لا يجوز استهدافها، كما أن استهداف الصحفيين والأدوات الإعلامية يمثل انتهاكاً مباشراً للقانون الدولي.
منظمة ‘مراسلون بلا حدود’ أدانت القصف واعتبرته ‘جريمة حرب تستوجب المساءلة’، فيما طالبت لجنة حماية الصحفيين بفتح تحقيق دولي مستقل.
من جهتها، قالت الباحثة في منظمة العفو الدولية، آية مجاهد، إن استهداف الكاميرا ‘يؤكد أن إسرائيل تريد إسكات الشهود على جرائمها في غزة’.
يأتي قصف مستشفى ناصر في سياق حملة أوسع ضد الإعلام في غزة. فمنذ بدء العدوان الإسرائيلي في تشرين الأول/أكتوبر 2023، استشهد أكثر من 252 صحفياً وفق المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، ما يجعل القطاع أخطر مكان في العالم للعمل الصحفي.
وتشير تقارير حقوقية إلى أن الاحتلال يستهدف عمدًا مراكز البث والمعدات الإعلامية، في محاولة لعزل غزة عن العالم والتعتيم على ما يجري من إبادة جماعية.
يرى محللون أن الاحتلال الإسرائيلي يستخدم ذريعة ‘الأمن’ للتغطية على جرائمها، فكل كاميرا أو ميكروفون يُعتبر في نظرها تهديداً أمنياً محتملاً.
لكن الحقيقة، كما يظهر من تحقيق الوكالة، أن الهدف هو طمس الأدلة وتقييد قدرة الصحافة على كشف الحقائق.
ويحذر خبراء في القانون الدولي من أن استمرار الإفلات من العقاب سيشجع الاحتلال على المضي في سياساته، ما يتطلب تحركاً دولياً عاجلاً لضمان الحماية للصحفيين.
يكشف التحقيق عن تناقض صارخ في الرواية الإسرائيلية بشأن قصف مستشفى ناصر في خانيونس، حيث زعم الاحتلال استهداف ‘كاميرا لحماس’، بينما الحقيقة أن الضربة أصابت كاميرا تابعة للوكالة الدولية، ما أدى إلى استشهاد وإصابة صحفيين ومدنيين.
هذا التضارب يعكس نمطاً متكرراً من الاحتلال في تقديم ذرائع أمنية لتبرير استهداف المدنيين والمرافق الحيوية.
ويؤكد التقرير الحاجة الملحة لمحاسبة الاحتلال على جرائمها بحق الصحفيين والمؤسسات الطبية، باعتبارها انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني وجرائم حرب لا تسقط بالتقادم.