في العصر الرقمي الحالي، أصبحت البيانات واحدة من أهم الأصول التي تحرك الاقتصاد العالمي، وتؤثر بشكل متزايد في موازين القوى بين الدول. حيث شهدنا خلال العقدين الماضيين كيف تحولت البيانات إلى وقود لمحركات النمو الإقتصادي، من خلال إستخدامها في تطوير التكنولوجيا، تحسين الخدمات، وتعزيز القدرات العسكرية. وهذا ما يبرز صراعاً جديداً بين الدول، يتجاوز حدود المنافسة الإقتصادية ليصل إلى نزاع إستراتيجي حول من يمتلك القدرة على جمع، تخزين، وتحليل هذه البيانات، وكيفية إستخدامها لتحقيق الهيمنة. في هذا السياق، أصبحت البيانات عاملاً حاسماً في تحديد النفوذ العالمي، إذ لم تعد تُعتبر مجرد معلومات، بل أداة قوية تُستخدم لتحقيق مصالح سياسية، إقتصادية، وأمنية.
من دون شك، تمثل البيانات اليوم ركيزة أساسية في جميع المجالات الحيوية، من الإقتصاد إلى السياسة، ومن الأمن القومي إلى الثقافة. فالدول التي تملك القدرة على جمع وتحليل البيانات، سواء كانت عن مواطنيها أو عن العالم الخارجي، تتمتع بميزة كبيرة. على سبيل المثال، الشركات الكبرى مثل “غوغل”، “فيسبوك”، و”أمازون” تجمع كميات هائلة من البيانات يومياً، مما يمنحها تفوقاً ليس فقط في السوق التجاري، بل أيضاً في التأثير على السياسة العامة وسلوك المستخدمين.
لكن الأمر لا يقتصر على الشركات. فحكومات الدول، وخاصة الكبرى منها مثل الولايات المتحدة الأمريكية والصين، على سبيل المثال، بدأت تتبنى إستراتيجيات متكاملة لجمع وتحليل البيانات بشكل غير مسبوق لتعزيز قوتها الإقتصادية والسياسية والعسكرية. في الولايات المتحدة، هناك تركيز على تطوير تقنيات الذكاء الإصطناعي وتحليل البيانات الضخمة لتعزيز قدرة المؤسسات العسكرية والإستخباراتية، كما يتم إستغلال البيانات لتحقيق أهداف إقتصادية من خلال تحسين كفاءة الأسواق وتعزيز الإبتكار في مجالات مثل الرعاية الصحية والتجارة الإلكترونية. أما الصين، فقد تطورت إستراتيجياتها بشكل لافت، حيث تشكل البيانات جزءاً أساسياً من خططها المستقبلية ضمن إطار “الحزام والطريق الرقمي” و”الذكاء الإصطناعي”. فهي ترى في البيانات وسيلة لبناء إقتصاد قوي ومؤثر على الساحة الدولية، بالإضافة إلى إستخدامها في تعزيز الرقابة الداخلية وتعزيز الإستقرار السياسي.
وبالتالي، فإن البيانات أصبحت أداة إستراتيجية متعددة الأبعاد تساهم في تحقيق أهداف سياسية، إقتصادية، وعسكرية. وقد نتج عن ذلك ظهور حالة من “الجيوسياسية الرقمية” حيث لم تعد المنافسة بين الدول تقتصرعلى الموارد المادية أو الجغرافية، بل تشمل الآن السيطرة على المعلومات والبيانات نفسها. فالبيانات اليوم تُعتبر أداة رئيسية للسيطرة على الأسواق، موازنة القوى الجيوسياسية، وتوجيه السياسات العامة.
ومن أبرز مظاهر صراع البيانات بين الدول هو صراع الأمن السيبراني. منذ أن أصبحت البيانات هي المحور الأساسي للمنافسة الإقتصادية والجيوسياسية، باتت الهجمات السيبرانية جزءاً من الإستراتيجيات الوطنية للدول. مثل هذه الهجمات تستهدف أنظمة الحواسيب والبنية التحتية الحيوية للتأثير على الإستقرار الداخلي لدولة معينة أو إضعاف قوتها الإقتصادية.
الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا قد طورت قدرات هجومية ودفاعية في هذا المجال، وقد تم تبادل الإتهامات بين هذه الدول بشأن شن هجمات سيبرانية على بعضها البعض، سواء لإستهداف البنية التحتية أو لسرقة البيانات الإقتصادية أو العسكرية الحساسة. وهذا يخلق بيئة من عدم الثقة والتوتر، حيث تسعى كل دولة لتعزيز أمنها السيبراني، وفي نفس الوقت منع خصومها من الوصول إلى بياناتها.
أحد أبرز الأمثلة على هذا الصراع بين الدول يظهر في التوترات المستمرة بين الولايات المتحدة والصين حول مسألة البيانات. الصين، من خلال سيطرتها على كبرى الشركات التقنية مثل “هواوي”، تسعى إلى الإستفادة من البيانات العالمية لتعزيز قدرتها الإقتصادية والتكنولوجية، وهو ما تراه الولايات المتحدة تهديداً لأمنها القومي، خوفاً من أن تستخدم الصين هذه البيانات لأغراض تجسسية أو للتأثير على السياسات الأمريكية. من جانبها، تفرض الولايات المتحدة قوانين صارمة على الشركات الصينية، من بينها الحظر المفروض على “هواوي”، بهدف منعها من الوصول إلى الأسواق الأمريكية والتأثير على البنية التحتية الحساسة.
وفي المقابل، تعمل الصين على تحسين بنيتها التحتية التقنية وجمع البيانات من خلال إستخدام تقنيات مثل الذكاء الإصطناعي وإنترنت الأشياء، حيث تعتبر الصين أن البيانات هي العمود الفقري لتطوير إقتصادها الرقمي، وهي مستعدة للاستثمار في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي لتوسيع هذه القدرات.
إلى جانب الصراع التكنولوجي، هناك تحديات قانونية وسياسية كبيرة تواجه الدول في إدارة البيانات.
ومن أبرز هذه التحديات، حقوق الخصوصية وحماية البيانات الشخصية. في الإتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، يُعتبر قانون “حماية البيانات العامة” (GDPR) أحد أكثر القوانين صرامة في العالم، حيث يفرض على الشركات أن تحصل على موافقة المستخدمين قبل جمع بياناتهم ويعطي الأفراد الحق في حذف بياناتهم. هذا يعارض تماماً النموذج الأمريكي الذي يسمح للشركات بجمع كميات ضخمة من البيانات دون فرض قيود صارمة.
وفي بعض الدول، تسعى الحكومات لفرض قوانين جديدة لإحتكار البيانات أو مراقبة إستخدامها، وهو ما يؤدي إلى صراعات بين شركات التكنولوجيا والحكومات حول السيطرة على البيانات. على سبيل المثال، تطالب بعض الحكومات بتخزين البيانات على أراضيها من أجل تحسين قدرتها على التحكم في هذه البيانات، مما يؤدي إلى صراعات تجارية ودبلوماسية مع دول أخرى.
على الرغم من كل هذه التحديات، أرى أن هناك فرصة كبيرة للتعاون بين الدول في مجال إدارة البيانات. فعلى غرار التعاون في مكافحة الإرهاب أو التغير المناخي، يمكن أن تساهم الدول في تبادل المعلومات والبيانات بشكل شفاف وآمن بهدف مواجهة التهديدات المشتركة. ولكن للوصول إلى هذه النقطة، سيكون من الضروري أن تتفق الدول على إطار قانوني عالمي يضمن حماية البيانات الشخصية من جهة، ويتيح للدول تعزيز أمنها السيبراني من جهة أخرى. كما يجب أن تكون هناك آليات تضمن عدم إستغلال البيانات لتحقيق مصالح سياسية أو تجارية ضارة بأمن الدول الأخرى.
إن صراع البيانات بين الدول يعكس بوضوح التحول الكبير في طبيعة الحروب والصراعات في العصر الحديث. فلم تعد الحروب تُخاض فقط بالأسلحة التقليدية، بل أصبح للبيانات دور محوري في تحديد مستقبل الدول. من جهة، يمكن أن يؤدي هذا الصراع إلى تفاقم التوترات الجيوسياسية، ومن جهة أخرى، يمكن أن يصبح هذا المجال مسرحاً للتعاون الدولي في مواجهة التحديات العالمية. ولكن، لتحقيق هذا التعاون، تحتاج الدول إلى إعادة التفكير في إستراتيجياتها الخاصة بالبيانات وتطوير قوانين وآليات تضمن إستخدامها بشكل آمن وأخلاقي.