حروب العشرية الثالثة (48)..حسن خضر
2025 Sep,30
يحتل «الخلاف» بين ترامب ونتنياهو مكانة بارزة في المادة الإخبارية وتحليلات «الخبراء» في العالم العربي. وهذا ما لا نجده في المادة الإخبارية، وتحليلات «الخبراء»، في الولايات المتحدة، وأوروبا عموماً. وبما أن الدولة في العالم العربي هي صاحبة وسائل الإعلام، أو صاحبة نفوذ داخل وخارج حدودها، سواء بالتمويل أو الرقابة، على «المستقلة» و»الخاصة» منها، فمن الأسلم التعامل مع الطريقة التي تُصاغ بها الأخبار، علاوة على التحليلات، بوصفها خدمة لموقفها السياسي. ولا يندر، في سياق كهذا، تحويل الكذب إلى عملة رائجة، وتحويل أشخاص على قدر متدن من الكفاءة المهنية والأخلاقية إلى محللين إستراتيجيين.
لسنا، هنا، بصدد تحليل العلاقة المعقّدة بين وسائل الإعلام والدولة، والمؤسسات الصناعية والمالية، وإكراهات السوق، وموازين القوى في الديمقراطيات الغربية. كل ما في الأمر أن حرية التعبير المكفولة بضمانات دستورية، واستقلالية المجتمع المدني، وتعددية مراكز القوى السياسية، تحد من سلطة الدولة المركزية، ولا تضع الطريقة التي تُصاغ بها الأخبار والتحليلات في خدمتها. قد لا يبقى كل ما ذكرنا إذا نجح ترامب واليمين الشعبوي في إنشاء أنظمة فاشية، وتدمير النظام الديمقراطي في تلك البلاد. ولكن هذا واقع الحال حتى الآن.
وبناء على هذا كله يمكن توظيف التباين بين طريقتَي الكلام العربية والأميركية عن «العلاقة» بين ترامب ونتنياهو كوسيلة إيضاح. نقطة البداية أن أحداً لم ينج، ولن ينجو، سواء في العالم العربي أو «الغرب» (والعالم إذا شئت) من التداعيات المباشرة، وغير المباشرة، لحرب الإبادة الإسرائيلية في غزة.
اندلعت الحرب منذ عامين، وهي فترة كافية لتشخيص مواقف كافة القوى والدول في العالم. وفي إطار كهذا، لا ترقى مواقف الحكومات، سواء في الحواضر أو الإبراهيميات، إلى مستوى الحدث، وتبدو أقل بكثير من مواقف حكومات في أفريقيا، وأميركا اللاتينية، وفي أوروبا نفسها. ويزداد الأمر تعقيداً، ويثير علامات استفهام كثيرة، مع وجود فجوة بين المواقف الرسمية للحكومات، وقطاعات واسعة من شعوبها من ناحية، و»العلاقة» الوثيقة جداً بين ترامب والكثير من الحكومات من ناحية ثانية. وهذه أشياء متداولة في الحقل غير الرسمي للسياسة، كما تتجلى في وسائل التواصل الاجتماعي، مثلاً.
لسنا، هنا، بصدد استدعاء المرافعات المتداولة على مدار عامين (يستمرئ أغلبها لعبة لوم الضحايا) والرد عليها، بل التذكير بحقيقة أن تعويم وتعميم «الخلاف» بين ترامب ونتنياهو يمثل مرافعة إضافية، وإن تكن غير مباشرة، ولكنها تبدو أكثر نجاعة من غيرها، ومفادها أن الفعل الحقيقي يحدث في الكواليس، حيث تُستخدم العلاقة الوثيقة جداً بترامب للتأثير على مواقفه الشخصية، وبالتالي على السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط.
لا نعرف، بطبيعة الحال، طبيعة «الفعل الحقيقي» ومدى فعاليته، ولا جدية ما يُبدي تاجر العقارات من «مرونة» قد ينقلب عليها في اليوم التالي، ولا حتى تسريبات عن «المرونة»، و»خلافات» مع نتنياهو، غالباً ما تكون مصادرها إسرائيلية (موقع «أكسيوس» لصاحبه باراك رافيد) كل ما في الأمر، أو الواقع الفعلي على الأرض، وعلى مدار عامَين كاملَين، لا يرجّح فرضية «الخلاف»، بل يعزز فرضية شراكة أميركية كاملة وفاعلة في الحرب، ازدادت ضراوة في ولاية ترامب الثانية، إلى حد يسمع معه دوي أكثر من جرس للإنذار في أوساط أميركية مختلفة، بما فيها اليمين، ومعسكر ترامب نفسه.
وطالما وصلنا إلى هذا الحد، فإنه يأخذنا إلى موقف أوساط أميركية مختلفة من «العلاقة» بين ترامب ونتنياهو. تركت الحرب أثراً عميقاً على أوساط مختلفة في أميركا، خاصة في الجامعات، وأوساط الشباب بشكل عام. ولكن أنظارنا تتركز، في الوقت الحاضر، على تململ واضح في أوساط اليمين الأميركي، وبين أنصار ترامب نفسه.
وقد تجلى هذا الأمر في صورة علامات استفهام وتساؤلات حول روافع النفوذ الإسرائيلي، ووقوع ترامب بشكل خاص، ومثير للارتياب، تحت تأثير نتنياهو ونفوذه بالمعنى الشخصي، وفي أوساط نخبة السياسة والمال والأعمال في واشنطن. ولكيلا نبقى في العموميات، فإن في مجرد استدعاء النفوذ الإسرائيلي، أو الإيحاء بوجوده، في معرض السجال بشأن قضايا أميركية داخلية، مع كل ما ينطوي عليه الأمر من احتمال المؤامرة، ونظرياتها، ما يعني أن الاحتقان قد وصل إلى درجة الغليان، وأن الأمور خرجت عن السيطرة.
المقصود فضيحة إبستين، الذي يعتقد البعض (وهذا البعض ليس على هامش الحقل السياسي بل في قلبه) أنه كان عميلاً للإسرائيليين، وأن هؤلاء يبتزون ترامب بما لديهم من معلومات عنه، وما في أيديهم من أوراق قد تودي بحياته السياسية. والمقصود، في الحالة الثانية كلام البعض عن احتمال أن تكون لدى الإسرائيليين يد في اغتيال الداعية اليميني تشارلي كيرك، لأنه أبدى تحفظّات على سلوكهم في الحرب على غزة.
لذا، وفي سياق السجال بشأن القضيتين المذكورتين، وقضايا لا يتسع المجال لذكرها، في وسائل الإعلام الأميركية والغربية، لا يحتل «الخلاف» بين ترامب ونتنياهو مكانة تعادل مكانته في وسائل الإعلام العربية. علامات الاستفهام، والأسئلة، هي ما تحتل المتن لا «الخلاف». وهذا يخدم قضايا داخلية في تلك البلاد.
وبقدر ما أرى، فإن ترامب مجرّد واجهة للمحافظين الجدد، ومشروعهم في أواسط التسعينيات لشطب المسألة الفلسطينية، وإعادة بناء الشرق الأوسط بإدارة إسرائيلية، وما عدا ذلك من كلام عن «خلافات» فلا ينبغي التعامل معه «كتحليل ملموس للواقع المادي الملموس» العبارة الأثيرة لدى طيّب الذكر أبو النوف. فاصل ونواصل.