بعد ردها على خطة ترمب، وبعد كل عاشته غزة من مآسٍ وخسائر وإبادة، يظل السؤال الجوهري مطروحاً: ماذا تحقق؟ هل كسب الشعب شيئًا يوازي ما دفعه من دم ودمار، أم أننا أمام جرح جديد أضافته حماس إلى سجل المعاناة الفلسطينية الطويل؟ ما الذي أنجزته حماس لشعبها في هذه الحرب، وهل ما زالت قادرة على إقناع الناس بأنها تمثلهم بعد كل ما جرى؟
الصورة تتناقلها كل الفضائيات وهي لا تحتاج لشرح، والحصيلة المرئية لا تتطلب الكثير من الجدل: عشرات الآلاف من الشهداء ومئات آلاف الجرحى والمشردين، بيوت مدمرة، عائلات مشرّدة، بنية تحتية منهارة، وحصار أكثر قسوة وآلم، وتجويع لشعب لم يسبق أن حدث عبر التاريخ، مما كان قبل اندلاع الحرب. في المقابل، الشعارات التي رفعتها حماس منذ البداية لم تتحقق على الأرض. لا السجون بيُيضت، ولا الحصار انكسر، ولا غزة تحررت، ولا الأقصى حُيد من اقتحام المستوطنين ولا ميزان القوى انقلب لصالح الفلسطينيين. الفارق بين ما وعدت به حماس وما انتهت إليه حتى اليوم (هذا لو توقفت الحرب بشكل نهائي) يكشف فجوة مؤلمة بين خطاب ما يسمى بالمقاومة وواقع المعاناة والمأساة.
على المستوى السياسي، شعبنا لم يجن سوى خطط لتهجيره، وللوصاية عليه، ولم تجن حماس سوى مزيد من العزلة، ومحاولات الإجتثات، فبعض الدول التي كانت تغضّ الطرف عن وجودها أو تتعامل معها كأمر واقع، باتت تنأى بنفسها أكثر، وأصبح المجتمع الدولي يراها سببًا في استمرار الحرب وجزء من مأساة شعبها بقدر ما يرى فيها طرفًا متضررًا. أما عربيًا، فإن الحاضنة التي كانت تجدها الحركة (قطر، تركيا) بدأت تتآكل، تحت ضغط صور المأساة الإنسانية التي ألقت بظلالها الثقيلة على الرأي العام، ومن الجانب الأخر، ضغط الولايات المتحدة والمصالح المشتركة معها.
أما في الداخل الفلسطيني وخصوصاً غزة، فالفجوة بين الحركة وشعبها (على افتراض أنها نظرت إليه كشعب وحاضنة، وليس متاريس تختفي خلفه) تتسع على نحو خطير. صحيح أن هناك فلسطينيين لم يتضرروا من الحرب ما زال يرى في حماس رمزًا للصمود والمقاومة، لكن الشرائح الواسعة التي عاشت إبادة لم يتعرض لها شعب آخر، باتت ترى أن حماس ضحّت بهم من أجل مشروعها الخاص، وأنها لم تُظهر ما يكفي من المسؤولية قولاً وفعلاً لحمايتهم.
هنا يطرح سؤال أخلاقي وسياسي في آن: أي فصيل يمكنه الادعاء بالنصر، بينما يترك أبناءه يواجهون الموت والدمار وحدهم؟
المستقبل يضع غزة أمام احتمالات معقدة. قد نشهد ترتيبات انتقالية بإشراف دولي أو إقليمي. لكن المؤكد أن مرحلة ما بعد الحرب لن تشبه ما قبلها، وأن الاحتكار الذي مارسته حماس طوال سنوات حكمها في غزة بات على المحك ولن يسمح بعودته أو إعادة استنساخه مهما كانت المعطيات. إعادة الإعمار لن تكون مجرد عملية هندسية، بل عملية سياسية وأخلاقية تعيد تشكيل الخريطة الفلسطينية، وربما تعيد صياغة معادلة القوة بين الفصائل.
نظرة الناس إلى حماس ستظل محصورة في اعتبارها سببًا في استنزاف لا نهاية له. وسيبقى السؤال المطروح هو أن الصورة النهائية ستتوقف على ما ستقدمه حماس بعد أن فقدت كل أوراقهالاحقًا: هل ستتمكن من مراجعة تجربتها، والانفتاح على شراكة وطنية حقيقية، أم ستبقى أسيرة خطابها القديم الذي فقد بريقه، ومبررات وجوده؟.
الدرس الأهم اليوم أن لا أحد يملك الحق في المتاجرة بدماء الناس. لا يجوز أن يُرفع شعار النصر على أنقاض البيوت المهدمة ولا على صرخات الأمهات الثكالى. الوطنية الحقيقية تُقاس بقدرة الفصيل على حماية شعبه وصون كرامته، لا بشعارات ولا بصواريخ تُسقط فوق البيوت. وإذا لم تُراجع حماس تجربتها بصدق، فإن غزة ستظل رهينة الدم والمأساة، بلا أفق ولا رجاء، وسيبقى الشعب وحده يدفع الثمن، فهل يقبل شعبنا أن يُستنزف أكثر مما استُنزف؟