الكاتب: محمد ياغي
لعل الحدث الأهم لدولة الاحتلال، منذ توقيع اتفاق أوسلو، هو ذلك المشهد المهيب لخروج 78 وفداً أممياً من قاعة هيئة الأمم المتحدة عندما صعد نتنياهو للمنصة لمخاطبة العالم.
لقد تحدث نتنياهو أمام قاعة فارغة تقريباً من الوفود الدولية.
لقد حمل ذلك الكثير من الدلالات على حجم العزلة الدولية التي وصلت إليها دولة الاحتلال وعلى حجم التأييد الدولي لحقوق الشعب الفلسطيني.
وهنا يُمكن ملاحظة الآتي:
أولاً: في أوروبا الغربية هنالك حركة تضامن غير مسبوقة مع الشعب الفلسطيني تطالب بفرض عقوبات اقتصادية وأمنية وثقافية على دولة الاحتلال، ليس فقط من أجل إنهاء حرب إبادتها على غزة ولكن من أجل إنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية وإعطاء الشعب الفلسطيني حقه في تقرير مصيره.
ولقد أدت حركة التضامن الواسعة هذه مع الشعب الفلسطيني إلى سلسلة الاعترافات الأخيرة بالدولة الفلسطينية من دول وازنة مثل فرنسا وبريطانيا وإسبانيا والبرتغال وأستراليا وكندا.
وأدت أيضاً إلى فرض عقوبات اقتصادية على دولة الاحتلال أهمها تلك التي فرضتها إسبانيا حيث ألغت تصدير السلاح لها أو شراء السلاح منها، وسلوفينيا التي حظرت حتى مرور السلاح إليها عبر أراضيها، وكندا وإيطاليا وبريطانيا التي جمدت تصاريح تصدير أسلحة جديدة لها، وهولندا وبلجيكا اللتان أعلنتا وقف إمدادات بعض الأسلحة وقطع الغيار والذخائر لها.
وهنا نتحدث فقط عن الدول الأوروبية لكن القائمة طويلة إذا أضفنا لها دولاً عديدة في أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا.
كما أنها أدت لفتح حوار في الاتحاد الأوروبي لفرض عقوبات جماعية على دولة الاحتلال بما في ذلك تعليق الاتحاد للتفضيلات التجارية التي يمنحها لإسرائيل في إطار اتفاقية الشراكة بينه وبينها؛ ووقف مشاركة إسرائيل في برامج «إيراسموس» وهو برنامج للتعليم والتدريب والشباب والرياضة؛ و»هورايزن أوروبا» وهو برنامج الاتحاد الأوروبي الرئيس للبحث العلمي والابتكار، وتقييد الإعفاءات من التأشيرة ووقف الواردات من المستوطنات.
صحيح أنه لا يوجد إجماع على هذه العقوبات بسبب رفض ألمانيا والمجر وإيطاليا ودولة التشيك لها، لكن هذا الرفض لا يُمكن أن يستمر إذا ما استمرت حركة التضامن مع الشعب الفلسطيني في أوروبا، والمؤشرات تشير إلى توسعها وتجذرها خصوصاً في ألمانيا بعد أن وطنت نفسها في إسبانيا وبريطانيا والكثير من الدول الأوروبية.
ثانياً: هنالك انزياح واضح في الرأي العام الأميركي تجاه تأييد حقوق الشعب الفلسطيني وتجاه إدانة جرائم دولة الاحتلال.
صحيح أن دولة الاحتلال لا تزال تتمتع بتأييد كبير من أعضاء الكونغرس خصوصاً من أعضاء الحزب الجمهوري، لكن هذا لا يُعبر عن حقيقة موقف الشعب الأميركي.
تشير استطلاعات رأي متعددة في الولايات المتحدة إلى أن هنالك غالبية تعتقد بأن دولة الاحتلال تمارس الإبادة ضد الشعب الفلسطيني، وأن حجم المتعاطفين مع الشعب الفلسطيني يفوق ذلك المتعاطف مع دولة الاحتلال، وأن هذه الغالبية تريد قيام دولة فلسطينية مستقلة.
وهنالك غالبية تقول إن بلدهم تدعم إسرائيل أكثر ما ينبغي، وإن غالبية الشباب الأميركي، تحديداً، هم الأكثر انتقاداً لدولة الاحتلال.
إن هذا الانزياح في الرأي العام الأميركي سيؤدي حتماً، إذا ما استمر، إلى انتخاب أعضاء كونغرس أقل ارتباطاً بإسرائيل ما سيسمح بفرض عقوبات عليها.
ونحن هنا لا نتحدث عن سنوات طويلة فالانتخابات النيابية تجري كل سنتين للنواب ولثلث أعضاء مجلس الشيوخ وبالتالي يمكننا مشاهدة هذا التغيير سريعاً.
ثالثاً: لم تعد دولة الاحتلال بقرة مقدسة لا يُمكن الحديث عنها كما كان الحال عليه قبل معركة طوفان الأقصى.
اليوم حتى المؤسسات الإعلامية الأكثر تعاطفاً معها، مضطرة إلى مناقشة ما تقوم به دولة الاحتلال من حرب إبادة في غزة وضم للأراضي في الضفة.
الإعلام والمؤسسات الأكاديمية وقوى المجتمع المدني والأحزاب السياسية في الغرب جميعها اليوم في نقاش علني حول سلوك دولة الاحتلال.
هذا لم يكن ممكناً قبل بضع سنوات عندما كان يُمكن «إخراس» كل مُنتقد لدولة الاحتلال باتهامه بمعاداة السامية.
القدرة على انتقاد دولة الاحتلال، على جعل سلوكها ضد الشعب الفلسطيني موضوع نقاش، هو مسألة في غاية الأهمية في الغرب لأنه الطريق نحو عزلها دولياً، وجعلها منبوذة، مثلما كان عليه حال دولة جنوب أفريقيا العنصرية، ما يفتح الباب واسعاً أمام فرض العقوبات بأشكالها المتعددة عليها.
أن يخشى جنودها من السفر خوفاً من الاعتقال بتهمة جرائم الحرب التي يقترفونها. أن تخشى دولة الاحتلال من العقوبات الاقتصادية والأمنية والثقافية التي ستفرض عليها.
أن يخشى شعبها على صورته في الغرب الذي يعتبر نفسه جزءا منه، هو في النهاية ما سَيُحدث تغيراً فيها لصالح المطالبة بإنهاء الاحتلال للأراضي الفلسطينية.
إن خطة ترامب ترمي إلى إلغاء كل هذه الإنجازات للشعب الفلسطيني: إلى وقف هذه الحركة الواسعة من التضامن الدولي مع الشعب الفلسطيني وإلى إعادة دولة الاحتلال، التي تحولت إلى دولة مارقة في نظر العالم، إلى دولة طبيعية على العالم أن يحترمها و»يقدسها» تماماً مثلما كان عليه الحال قبل معركة طوفان الأقصى.
إن الموافقة على خطة ترامب تعني خسارة هذا التأييد العالمي للقضية الفلسطينية لأنها ببساطة تُحول النقاش العالمي ما هو عليه الحال الآن: نقاش بشأن حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني التي تخوضها دولة الاحتلال لإنهاء قضيته الوطنية، والتي تفرض طرح أسئلة من نوع: ماذا على العالم أن يفعل لمعاقبتها، وماذا عليه أن يفعل لإنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية. تُحوله إلى نقاش بشأن رفض المقاومة الفلسطينية لنزع سلاحها وبالتالي إلى تجريم الشعب الفلسطيني وإعفاء إسرائيل من مسؤوليتها عن كل الدماء التي سفكتها بهدف حرمانهم من حقوقهم الوطنية والاستيلاء على أراضيهم.
وبالتالي فإن السؤال المطروح على الفلسطينيين والعرب جميعا هو: ما هي المصلحة الفلسطينية والعربية في قبول خطة ترامب؟ لماذا عليهم تقديم خدمة مجانية لدولة الاحتلال بوقف حركة التضامن الدولي مع الشعب الفلسطيني.
هنالك مذبحة ودمار وكارثة إنسانية لم يشهد الفلسطينيون والعرب لها مثيلاً منذ قرون، هذا صحيح.
لكن هذه الكارثة يجب أن تنتهي مرة واحدة والى الأبد بإنهاء الاحتلال.
بخلاف ذلك، فإن هذه الكارثة ستتكرر مرات ومرات مستقبلاً، حتى لو تم تحويل غزة إلى ريفيرا فرنسية بلغة ترامب.
طالما هنالك احتلال، لا تستطيع قوة على الأرض وقف المقاومة، لأنها النتاج الطبيعي للاحتلال، رغبنا بذلك أم لم نرغب.