بعد اللغط الذي ساد في وسائل التواصل الاجتماعي عقب لقاء الدكتور موسى أبو مرزوق على قناة الغد الفضائية، وما أزعجنا من ضجيج وثرثرة غير مبررة، هدفت – في معظمها – إلى الإساءة لشخصية وطنية قيادية من طراز رفيع في حركة حماس، أقول: إنّ الدكتور موسى أبو مرزوق، الذي عرفته منذ أكثر من خمسين عامًا، هو من أنبل الناس وأصدقهم وطنية، ومن أكثرهم التزامًا بمبادئه ووفاءً لقضيته. عرفته صاحب مواقف إنسانية نبيلة، وفي أخلاقه آية منذ بواكير شبابه، وتجلّت عطاءاته على نحوٍ ساطع خلال حرب الإبادة على قطاع غزة، إذ لم يبخل في مدّ يد العون للنازحين في الخيام، مقدِّمًا الدعم المالي والغذائي لهم، من خلال بعض المشاريع الخيرية، مثل مشروع “تكية الخالدين” بمخيّم منتزه النخيل للنازحين (12)، والتي استمرت خدماتها الإغاثية لعامين كاملين، فكان يجود بما يصون الكرامة ويسدّ رمق الحاجة لآلاف الأسر التي عصفت بها النكبة الجديدة بكل أهوالها وويلاتها.

كانت بداياتي معه في مخيّم اللاجئين بمدينة رفح، حيث كنا نقيم مع أسرنا منذ نكبة العام 1948، وبعد نكسة عام 1967. في الحقيقة، كانت تلك الهزيمة القاسية نقطة تحوّل في حياتي وحياة أبناء جيلي من الشباب، ولعبت دورًا تصويبيًا في مسارنا الفكري؛ إذ انتقلنا من حالة الإعجاب بالزعيم الراحل جمال عبد الناصر – ككثيرٍ من شباب جيلنا الناصريين – إلى توجّهٍ إسلاميٍّ ناشئ، يسعى لتجاوز مرارة الهزيمة وبناء وعي جديد يقوم على الإيمان بقدرة الأمة على النهوض والتحرير. كان هدفنا أن نبني مجتمعًا إسلاميًا واعيًا، يحمل من الحماسة الوطنية والوعي الثوري ما يؤهله ليكون رأس الحربة في معركة الأمة ضد المشروع الصهيوني الاستعماري.

قاد تلك المرحلة – ما بعد الهزيمة – الشيخ أحمد ياسين (رحمه الله)، وكان من طلائع الشباب البارزين آنذاك كلٌّ من الدكتور موسى أبو مرزوق، والشهيد الدكتور فتحي الشقاقي (رحمه الله).

في مطلع السبعينيات، غادرنا غزة لاستكمال دراستنا الجامعية في مصر، وكان الأخ موسى قد سبقنا إلى الأردن عام 1968، ثم التقينا مجددًا في القاهرة، حيث كنا نقيم في عمارة واحدة، في شقتين متجاورتين. وكان الدكتور موسى آنذاك يتولى إدارة العمل التنظيمي، ويشرف على تنسيق نشاطاتنا الإسلامية في الجامعات المصرية، بحيويةٍ ومسؤوليةٍ لافتة.

وبعد تخرجه في الهندسة، عمل في شركة بترول أبوظبي الوطنية “أدنوك”، فيما كنت أعمل هناك في إحدى الجمعيات الإسلامية. ثم جمعنا القدر مرة أخرى في الولايات المتحدة الأمريكية، حين حصل كلانا على منحة للدراسات العليا، فتوثّقت أواصر الأخوّة بيننا مجددًا، إذ عملنا معًا في النشاط الإسلامي والطلابي كتوأم روح، وكان هو من يقود التجمع الإسلامي للطلاب الفلسطينيين هناك، ويسعى لتطوير عملنا خدمةً لقضيتنا الوطنية. وقد أسهم د. أبو مرزوق في تأسيس عددٍ من المؤسسات التي تبنّت مشروعًا وطنيًا فلسطينيًا رصينًا داخل أمريكا وفي الوطن المحتل.

كان الدكتور موسى دائم المبادرة في دعم المشاريع الوطنية والخيرية، وساهم بجهوده السخية في إنشاء الجامعة الإسلامية بغزة، ورعاية الجمعيات الخيرية والإغاثية، كما لم تتوقف عطاياه خلال سنوات الانتفاضة الأولى، إذ كان يمدّ يد العون لعائلات الشهداء والجرحى وأسر المعتقلين. وكان من أوائل من تحرك لإغاثة المبعدين إلى مرج الزهور وعائلاتهم عام 1992، رغم وجوده في المهجر، وجيّر الكثير من وقته لأجل مظلوميتهم.

وفي الولايات المتحدة، أصبح الدكتور موسى رئيسًا لتنظيم الإخوان المسلمين هناك، والذي كان يضمّ التجمعات الإسلامية من مختلف الدول العربية. وقد حصل على البطاقة الخضراء (Green Card) التي تؤهله – بعد عامين – لنيل الجنسية الأمريكية، لكن في عام 1995 جرى توقيفه في مطار كينيدي بنيويورك على خلفية رئاسته للمكتب السياسي لحركة حماس، بعدما طالبت إسرائيل بتسليمه إليها، غير أنها سرعان ما تراجعت عن مطلبها خشية ردّ فعل الحركة وكتائبها التي كان له دورٌ بارز في تأسيسها. ألغت السلطات الأمريكية بطاقته الخضراء، ثم أبعدته إلى الأردن بعد وساطة من الملك حسين والرئيس ياسر عرفات (رحمهما الله).

ومن عمّان إلى دمشق، ظلّ الدكتور موسى يحتفظ بمكانته المرموقة نائبًا للأخ خالد مشعل في قيادة المكتب السياسي للحركة. وللحقيقة التاريخية، فإن الدكتور موسى أبو مرزوق ظلّ واحدًا من ألمع وأكثر القيادات الفلسطينية حضورًا وكاريزما، إذ يجمع بين الفكر الاستراتيجي والانفتاح على مختلف مكوّنات الساحة الفلسطينية، فضلًا عن علاقاته الوثيقة بقيادات الحركات الإسلامية في العالم العربي ودول المنطقة.

ولهذه المكانة التي توسّدها د. أبو مرزوق نضاليًا وفكريًا وإنسانيًا، فقد صدرت ثلاثة كتب تتحدث عن مسيرته وأفكاره، وهي:

1. الدكتور موسى أبو مرزوق.. الرجل والفكر والقضية (1996)

2. د. موسى أبو مرزوق.. مشوار حياة: ذكريات اللجوء والغربة وسنوات النضال (2018)

3. د. موسى أبو مرزوق في العمق: قراءة في الفكر الحركي والسياسي (2020)

أما عن لقائه الأخير في قناة “الغد”، فقد تحدثتُ مع بعض الأصدقاء القائمين على إدارة القناة، ووجدت لديهم تفهّمًا للظروف العصيبة التي يعيشها الجميع، بما فيهم القيادات السياسية التي تواجه ضغوطًا غير مسبوقة في مشهدية النكبة المتجددة التي حلت بشعبنا. ومثل هذه الهفوات قد تقع، ولا يسلم منها أحد.

يبقى الاحترام والتقدير للدكتور موسى أبو مرزوق ثابتًا لا يتزعزع، وتبقى القناة – كما أكّد القائمون عليها – منبرًا وطنيًا مفتوحًا أمام جميع القيادات الفلسطينية، تحمل رسالة إعلامية وطنية بامتياز، وتواصل سهرها في خدمة قضيتنا العادلة. والتقدير محفوظ للجميع.
وقديمًا قالوا: “أعقلُ الناسِ أعذرُهم للناس.”

شاركها.