غرائب وعجائب إسرائيلية جديدة! عبد المجيد سويلم

2025 Oct,20

 

في يومٍ ما سيستنبط لنا خبراء علم النفس متلازمات جديدة، ونحن بحاجة لها، ولم تكن لتظهر لولا فرادة هذه الحرب الإبادية، ولولا مجرياتها التي «تفوّقت» على كل حروب الأرض في العصر الحديث.
لا أعرف بصفتي غير المتخصّصة في هذا المجال كيف سيكون عليه رأي هؤلاء الخبراء، ولا أعرف كيف أشرح متلازمة العلاقة بين أن يتحقق النصر، مهما كان نوعه، وليس مهماً للغاية إذا كان نصراً ساحقاً وماحقاً، أو كبيراً، أو مطلقاً، ليس مهماً هنا نوعه، لكن الأهم فعلاً هو العلاقة بينه وبين تغيير اسم الحرب، وهذه هي بالضبط المتلازمة الغريبة والعجيبة التي جعلتني محتاراً، بل قلقاً على قدراتي نفسها بسبب عجزي عن شرحها أو صياغاتها بشكل يسهل على القرّاء.
فهمت بعد محاولات بحث جدّية أن إعطاء أسماء معيّنة للحروب والمعارك ليس اختراعاً خاصاً وحديثاً، وإنما هو تقليد قديم كان يستخدم في أقدم الحروب، وفي المعارك الكبيرة، وأحياناً الصغيرة، على مدى تاريخ طويل.
«واكتشفت» أنّ هذه الأسماء والمسمّيات غالباً لم تكن جزافية أو اعتباطية، وإنّما كانت في الغالب تنطوي على رمزيات لها دلالاتها التعبوية والتاريخية الهادفة والمقصودة في ظروف تلك المعارك والحروب.
إلى هنا فإن اقتراح نتنياهو بتغيير اسم الحرب الإبادية الوحشية التي دارت على قطاع غزّة، وفي الإقليم على مدار أكثر من عامين كاملين ليس غريباً ولا عجيباً بالمطلق إلّا بقدر ما يتعلّق الأمر بالتسمية الجديدة.
لم تعد هذه الحرب حسب الاقتراح الذي «ستناقشه» الحكومة الفاشية، ويتفاعل في صفوف «اليمين» الإسرائيلي، وبشكل خاص في صفوف حزب الليكود، وفي الأوساط الأكثر عنصرية وفاشية من مكوّنات الائتلاف الفاشي الحاكم في دولة الاحتلال.. لم يعد الاقتراح يتعلّق بالسيوف والرماح، ولا العربات، ولا أيّ شيء من هذا القبيل، وإنّما ــ وهنا عجب العُجاب ــ يتعلّق بنهاية الحرب ونتائجها من جهة، وباستمرارها واستكمالها لتجسيد «عظمة» اسمها الجديد وهو «الانبعاث القومي»!
«الانبعاث القومي» يحمل في طيّاته عدة مضامين كبيرة ومفصلية حسب القائمين على مشروع تغيير اسم الحرب.
هنا يجب أن نعود إلى تسميات سبق أن تم الإفصاح عنها والتي تحمل في طيّاتها من المعاني ما ينسجم مع التسمية الجديدة، وخصوصاً «الحرب الوجودية»، و»حرب الاستقلال الثانية».
وحسب ما أفهم من التسمية الجديدة فإن دولة الاحتلال قد «انتصرت» في درء المخاطر الوجودية التي مثّلتها هذه الحرب، كما انتصرت في «حرب الاستقلال الثانية»، وهي تتابع اليوم «نهج» تعزيز هذا الوجود وهذا الاستقلال، وتحاول فرض سيطرتها وتحكمها بمعادلة الحرب، وبفرض «السلام» الذي يؤمّن لها ــ أي للدولة الصهيونية ــ مستقبلاً «باهراً» يستحق أن يوصف بـ»الانبعاث القومي».
سنكتشف أن هذا الانبعاث الجديد هو سرّ هذه العجائبيات والغرائبيات الإسرائيلية لما ينطوي عليه من أكاذيب وقلب للحقائق بمجرّد التمعّن في كامل هذا السياق.
مفهوم الحرب الوجودية بالصورة التي طرحها «اليمين» الفاشي في دولة الاحتلال هو أكبر كذبة في هذه الحرب، لأن هجوم «طوفان الأقصى» لم يشكل أي تهديد وجودي لدولة الاحتلال بالرغم من الصدمة وسرعة انهيار جيشها في «منطقة الغلاف»، وبالرغم من الخسائر الباهظة التي مُنيت بها قوات الاحتلال لأنها استعادت توازنها نسبياً بعد 6 ساعات من الهجوم، وباشرت بالتدخل المباشر في سير المعارك حتى وإن كان التدخّل مرتبكاً بسبب هول الصدمة.
ولذلك فإن تصوير هول الصدمة وكأنه مرادف لحرب الوجود بالمعنى المادي للكلمة هو خدعة مقصودة لتبرير خطة «اليمين» الفاشي بالردّ على الصدمة الهائلة التي استفاق عليها الجيش والدولة والمجتمع.
وليس «الكلام الكبير» الذي ردّدته الأوساط السياسية والإعلامية التي تنتمي لـ»اليمين» الفاشي تحديداً حول «حرب التحرير»، و»حرب الاستقلال الثانية»، سوى الطريقة التي حاولت من خلالها هذه الأوساط تبرير تعبئة كل الطاقات للحرب الإبادية والتجويعية، ولتبرير أهدافها بالتطهير العرقي والتهجير والاقتلاع والتصفية والتدمير، وتبرير الانهيار من هول الصدمة.
لو أمعنّا النظر في مسألة «الوجودية والاستقلال» فإن الحرب كانت وجودية، وكانت حول الاستقلال، ولكن من زوايا معاكسة، ومتناقضة تماماً وبالكامل مع المفهوم الذي طرحه نتنياهو و»اليمين» الفاشي الحاكم، من خلفه.
الذي تم تهديده وجودياً هو صورة دولة الاحتلال، وصورة جيشها، وصورة القدرة، وصورة القوة، وصورة الهيمنة، وصورة التحكُّم.
هذا كلّه انهار، وهذا تم تهديده، ليس في مرحلة الصدمة فقط، وإنّما فيما بعد، وعلى مدار كامل هذه الحرب الدموية وحتى الآن.
والذي انهار، وثبت انهياره هو صورة الدولة المستقلّة، وثبت أنها دولة وظيفية للمشروع الأميركي و»الغربي» لا قيمة لها إذا تجرّدت من هذا الدور، وهذه الوظيفة.
وكل القوة والجبروت التي استخدمتها دولة الاحتلال في هذه الحرب الهمجية كانت من أجل محو هذه الصورة، وتغيير ما ترسّخ معها من حقائق ووقائع لن تُمحى إلّا بعد عقود وعقود طويلة، وقد لا تُمحى أبداً.
كيان كولونيالي خسر كل شيء، خسر قوة جيشه، وتحولت قوة الردع لديه إلى حروب إبادة جماعية وتدمير وإجرام، وخسر صورة الضحية وتحول إلى قاتل مجرم، وخسر شعوب الأرض قاطبة وتحول إلى كيان مارق ومنبوذ في عيون هذه الشعوب، وخسر الزخم الذي هبّ «للدفاع» عنه، وخسر صورة الكيان «الديمقراطي»، وخسر اقتصاده لعقود قادمة، وخسر قدرته على وقف نزيف مكوّناته وقواه البشرية النشطة، وخسر يهود العالم أو يكاد، وخسر بصورة لا يمكن استعادتها كامل سرديّته، وتحوّل الأمر إلى سرديّة جديدة أصبح أحد أوجهها الجديدة والمثيرة التشكيك بشرعيته نفسه، وخسر في واحدة من أكبر وأخطر خسائره على الإطلاق القلعة الشعبية الأميركية أو هي في طريق خسارته.
كيان خسر كل هذا ليس مرشحاً لمرحلة من «الانبعاث القومي»، وإنّما لمرحلة من الصيانة والترميم قبل أن يصبح مرشحاً للدخول في مرحلة الحالة الميؤوس منها علاجياً في الحالات المَرَضية.
غريب وعجيب هذه المسرحيات الدعائية، وغريب وعجيب أكثر أن تتم الطنطنة والتطبيل والتزمير لهذه المسرحيات وكأنها حقائق ووقائع ثابتة في بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية، ومثير للشفقة هذا الاستهبال الذي تمارسه الأوساط «اليمينية» والفاشية على الجمهور الإسرائيلي، و»مدهش» هذا الذي ينطلي على جزء ما زال كبيراً من هذا الجمهور.
يستمرّ «ملك» الأمن بتحويل كيانه إلى أكثر كيان في العالم يفتقد إلى الأمن بالذات، ويستمرّ ببيع الأوهام دون أن يرفّ، ولجماعته أي جفن.
كيانه خاض ثلث حرب على جبهة، والنصف الآخر على جبهة ثانية، وربع حرب على جبهة ثالثة، حرب لعامين كاملين، ومعها كل قوة وأسلحة الولايات المتحدة، وكل الدعم السياسي والدبلوماسي لأعتى كيان كولونيالي في العالم، وكل دعم «الغرب» واستخباراته ومعدّاته، وأعطي كل الوقت والوسائل بما فيها «سكوت» عالمين عربي وإسلامي عن كل ما اقترفته يداه، وأعلن أنه لن تقوم لفلسطين قائمة بعد هذه الحرب «الوجودية» و»الاستقلالية» ويقف في ثلثها الأخير عاجزاً وصاغراً عندما قرر السيد الأميركي أن الحرب قد انتهت هنا. إنها ملهاة مكتملة الأركان لإخفاء مأساة أكثر اكتمالاً في أركانها.
هذه الحكومة الفاشية، وهذا الائتلاف «اليميني» العنصري، لم يحسم الحرب على أيّ جبهة، وبقيت الملفّات عالقة ومعلّقة كلّها ومن دون استثناء، وحسم الملفّات بقي مستحيلاً مع هذا الجيش المُتعب، وهو مستحيل مع مجتمع على هذه الدرجة من القلق على وجوده ومستقبله، ومستحيل مع تعمّق عزلة الكيان عالمياً، ومستحيل من تبعات الخسارات المتتالية للقلعة الأميركية.
الاستمرار بالوتيرة السابقة أصبح مستحيلاً، والتوقف النهائي هو مستحيل سياسي مقابل لأنه يعني سقوط الحكم والتحكُّم، ومستحيل لأن هذا السقوط هو بداية حروب المحاسبة، ومعارك التحقيق في كل صغيرة وكبيرة.
دولة عالقة في منتصف كل شيء، الخوف من الحرب، والخوف من الاستمرار والخوف من استكمال الحروب، والخوف من التوقُّف.
ببساطة هو كيان لكل أنواع الخوف والمخاوف، كيان للقلق على ما هو آت، و»حسرة» على كل ما مضى وانتهى، وشك في العودة إلى أيّ أمن، وأيّ أمان أبشروا أيها الإسرائيليون، فكل شيء على ما يُرام بعد أن غيّرتم، أو غيّروا لكم اسم هذه الحرب الإبادية الوحشية.

شاركها.