بعد أنْ غاب الثلج وبان المرج، بدأت تتكشّف الحقائق عن المقاومة الفلسطينيّة في قطاع غزّة، وإخفاق جيش الاحتلال بالانتصار عليها، وهذه الاعترافات جاءت من المُحللين بالصحافة الصهيونيّة، الذين لم ينفّكوا خلال العاميْن الماضييْن من تسليط الضوء على “نجاحات” جيش الاحتلال، و “فشل” المقاومة، واليوم، بعد وقف إطلاق النار، بدأ حساب النفس، إذا جاز التعبير، وباتوا يكشِفون المستور.

ولنبدأ بالمحلل نير دفوري، مراسل الشؤون العسكرية في القناة الـ 12، الذي أكّد أنّه “خلال عامين من القتال، أثبت المسلحون قدرتهم على خوض معارك صعبةٍ، بما لديهم من قدراتٍ عسكريّةٍ هجوميّةٍ، واستبدال قياداتٍ جديدةٍ بمن تمّ اغتيالها، دون رؤية أي إشارة على انهيار قدراتها، رغم تضرّرها”.

وعزا المُحلل ذلك إلى أنّ “المسلحين جهزوا أنفسهم لهذا الهجوم، بحيث أمكن للقيادة العليا الاختفاء في أيّ وقت، بل طوّروا آلية لنقل القيادة بشكل سهل سلِس”، مُشددًا على أنّ “كل ذلك كشف عن قدرتها (القسام) على التصرف كجهازٍ عسكريٍّ تقليديٍّ يمكن دمجه في نموذج حرب العصابات، بعد أنْ قامت خلال 17 عامًا من سيطرتها على غزة ببناء مجموعةٍ من الأسلحة والقواعد تحت الأرض، كمركز قيادة وسيطرة لحروب المستقبل، وتطوير قدرات صاروخية أكثر دقة”.
أمّا يوآف زيتون، المراسل العسكري لصحيفة (يديعوت أحرونوت)، فذكر أنّ إفادات الجنود والضباط من ساحة المعركة أكّدت أن حماس جهّزت جيشًا مدربًا ومنظمًا، مع تسلسلٍ هرميٍّ عسكريٍّ، وهو ما أكده قائد جيش الاحتلال الأسبق أفيف كوخافي، بوصفه لحماس بأنّها “جيش، وليس منظمة”.
ونقل عن قائد الفرقة 98 دان غولدفوسن، قوله: “إنّنا أمام تشكيل حربيّ كامل ومنظم، وراؤه تفكير عسكري كبير، يربط الخنادق بالأنفاق، ووسائل قتالية محصنة على الأرض، ونقاط مراقبة، وإطلاق نار، وقنص من أماكن مرتفعة”.
ونقل عن ضباط آخرين أنّ “التشكيلات القتالية التي بنتها حماس أدهشتهم، لأنها أسقطت أسلحة فتاكة من الطائرات دون طيار التي تطلقها”، وأظهرت الحرب أنّ هذه التقديرات كانت مُحِقّة، لأنه بدلاً من مواجهته لخلايا حرب العصابات المتناثرة، فقد واجه الجيش فصائل وكتائب وفرقًا منظمة جيدًا ومدربة، وذات تسلسل هرمي عسكري واضح.
وأضافوا أنّه “في العديد من مراحل القتال، وبعد الاستهداف القاسي ضد قياداتها، بدا أنّ الخلايا المسلحة في غزّة لا تخضع لمركزية قيادية ثابتة، بل تنتشر أفقيًا في القطاع، وتغيير خططها حسب مستجدّات الواقع الميداني وإكراهات الحرب”.
وقال أفرايم غانور خبير الشؤون العسكرية في صحيفة (معاريف)، إنّه “كلّما أعلن الجيش سيطرته على منطقة ما، كبّدته (المقاومة) خسائرَ كُبرى، ما دلّل على جاهزيتها، وقدرتها على المبادرة، وإحداث المفاجأة، لدرايتها بتفاصيل المكان، وإمساكها بالميدان، وتدريباتها على حرب الشوارع، ومراوحتها بين الظهور والكمون، وبين الحرب تحت الأرض وفوقها”.
علاوة على ذلك، فوفقًا لما ذكره أمير بوحبوط المحلل العسكري في موقع (WALLA)، فإنّ من الأساليب القتالية المبتكرة للمقاومة في تصدّيها للقوات الغازية برًا مصطلح (العُقدة القتاليّة)، وهي عبارة عن خلايا لا مركزية صغيرة من المقاومين يتراوح عدد أفرادها في حالة تنفيذ هجمات منفردة بين 3 و5 مقاتلين، لتنفيذ مهمات كالمدفعية واستهداف المدرعات وحشودها، أو عملية قنص.
وقد يرتفع العدد لأكثر من 10 منهم في العمليات العسكرية المركّزة التي تنفّذ فيها أكثر من مهمة، وتحتاج لوجود عدد أكبر، وتقوم الفكرة على تشكيل خط دفاع ناجح يضرب نقاط ضعف الجيش، وتحييد قدراته، ونقاط قوته باستخدام أقلّ الإمكانيات المتاحة، ويتم تشكيلها بحسب المهمة الموكلة إليها، وأقلّها في حالات القنص، وفق قوله.
أمّا عوفر شيلح، الرئيس السابق للجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست، فذكر في ورقة بحثية لمركز (دادو) للدراسات العسكرية، أنّ يوميات العملية البرية أظهرت تفوّقًا للمقاتلين الفلسطينيين أصحاب الأرض على قوات الجيش الغازية، رغم حيازتها لمختلف أنواع العتاد العسكري.
وقال: “المسلحون تحلّوا بروحٍ معنويّةٍ عاليةٍ، واستعداد لأقصى المخاطر، كما حصل في وقائع الاشتباكات الفردية بين عدد محدود منهم مع دبابات أو مدرعات من المسافة صفر، أو الخروج في العراء بلباسٍ عاديٍّ لاصطياد الجنود، حتى فقد الجيش الأفضليّة في مسار القتال”.
ولفت إلى أنّ “الظروف القتالية ميدانيًا، والالتحام من مسافات قريبة بين الجنود والمقاومين قلّل من التفوق النسبي الذي يتمتع به الجيش في مجال التكنولوجيا والاستخبارات، بل زاد من خسائره”.
وتابع: “أكّدت المعارك اليومية في غزة، أنّ الاحتلال بعد عاميْن من القتال، يخوض حرب استنزاف مع المقاومة، بنتائج سلبية بين قتلى ومصابين، وبعضهم ينتحر بسبب معاناتهم النفسية”.
وأشار إلى أنّه في هذا النوع من الحروب لا يمكن للجيش النظاميّ أنْ ينتصر بسهولة، لأنّه لا توجد أصلاً مواجهات مباشرة بين قوّتين عسكريتين نظاميتين، ولا يتم احتساب الانتصار بعدد القتلى، ولكن هناك دائمًا في الخلفية معركة سياسية ونفسية تمارسها المقاومة للضغط على صُنَّاع القرار لدى إسرائيل، وفقا لما أكده شاكيد سافان في مقاله على القناة 12.
من ناحيته ذكر رون بن يشاي، المحرر العسكري بصحيفة (يديعوت أحرونوت)، أنّه بدلاً من مواجهة الغزو البرّي في معارك مباشرةٍ، فقد انسحب المسلحون من مواقعهم الأمامية، سعيًا لإضعاف التفوق التكنولوجيّ والعدديّ للجنود بشنّ هجماتٍ مفاجئةٍ على مجموعات صغيرة منهم، ومن تحت الأرض.
واختتم: “لم يظهر (الأشباح) إلّا عابرًا، حيث يخرجون فجأة من شبكة الأنفاق، مُسلّحين في كثيرٍ من الأحيان بقذائف صاروخيّةٍ لاصطياد الجنود، ثم العودة بسرعة لحصونهم تحت الأرض، وفي بعض الأحيان، يختفون بين البيوت المهجورة المدمرة”.

شاركها.