في لحظات التحوّل الكبرى، يصبح سؤال التاريخ ضرورة لا ترفاً، واليوم، ونحن نتابع النقاش حول غزة ووقف إطلاق النار ومرحلة “اليوم التالي”، تستعاد إلى الذاكرة تجربة مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، حين اشترطت إسرائيل والولايات المتحدة ألّا يظهر اسم منظمة التحرير الفلسطينية في أي وثيقة أو خطاب، وأن يُمثَّل الفلسطينيون بوفد من الداخل فقط، ضمن وفد مشترك مع الشقيقة الأردن، من دون علم فلسطين أو رمز وطني واضح، كان الهدف بسيطاً في ظاهره، عميقاً في دلالته: نعم، هناك شعب يُسمّى الفلسطينيين، لكن لا كيان سياسي يُدعى الشعب الفلسطيني.
واليوم، تتكرر الفكرة بصيغة جديدة: من سيدير قطاع غزة؟ السلطة؟ حماس؟ شخصيات “مستقلة”؟ قوات عربية أو إدارة دولية؟ مرة أخرى، لا يُطرح السؤال: ماذا يريد الفلسطينيون؟ بل: كيف يريد العالم أن يظهر الفلسطيني على الطاولة؟ ومن هي الصيغة التي تُرضي إسرائيل والعواصم المؤثرة دوليًا؟
وتحضرني هنا صورة صائب عريقات وهو يرتدي الكوفية في جلسات مؤتمر مدريد؛ يومها اعترض الإسرائيليون والأميركيون، لأن المسألة لم تكن قطعة قماش، بل إعلان هوية ووجود؛ اليوم، لم يعد الرمز مجرد كوفية، بل الهوية الفلسطينية ذاتها وحقّ الفلسطيني في امتلاك قراره؛ الاعتراض لم يعد على المظهر، بل على الفكرة الأعمق: أن لهذا الشعب حقًّا أصيلًا في تقرير مصيره، وأن يختار شكل حكمه بملء إرادته.
الخطر الأكبر لا يكمن في تشابه الوقائع فحسب، رغم إدراكنا لاختلاف السياقات الدولية والإقليمية، بل في أن بعض القوى الفلسطينية، وتحديدًا حركة حماس، تتصرف كأن التاريخ يبدأ من لحظتها وحدها، وكأن ما سبقها من تجربة وتضحيات ودم لم يكن؛ فمنظمة التحرير لم تصل إلى مدريد أو أوسلو مصادفة، بل بعد عقود من الكفاح وتراكم الشرعية العربية والدولية.
أما اليوم، فتُدفع حماس – أو تدفع نفسها – إلى مسارات تعيد إنتاج المنطق ذاته، لكن بصيغة تُكرّس التفرد بالقرار والسلطة، سواء بصورة مباشرة أو مواربة، مُعمِّقة بذلك حالة الانقسام؛ يبدأ المشهد بتثبيت هدنة، يتبعها نقاش حول شكل السلطة، ثم معركة على السلاح، ثم العودة إلى سؤال التمثيل: من يمثل الشعب الفلسطيني؟ وهكذا، بدلاً من أن نبني على ما سبق، نعود إلى نقطة البداية، وكأن كل ما مضى من تجربة ودم وثمن يمكن شطبها إذا لم تتناسب مع أيدولوجيا أو رؤية فئوية.
وهنا تبدو كلمات الفيلسوف الإسباني جورج سانتايانا كأنها كُتبت لنا: “من لا يتعلم من التاريخ، محكوم عليه أن يعيشه من جديد”، هذا ليس مجرد تحذير أخلاقي، بل وصف دقيق لمآل كل مشروع سياسي يختزل الوطن في فصيل، ويعامل الذاكرة كمساحة قابلة للمحو وإعادة الكتابة.
فعندما تُقدَّم الأيديولوجيا على التجربة، يُستبدل التراكم بالبدء من جديد، وتتحوّل القضية من مشروع تحرر إلى لعبة تدوير للأدوار والبدايات، بلا نهاية واضحة ولا أفق جامع.
في الماضي، كانت إسرائيل تقول: لا منظمة، لا دولة، فقط حكم ذاتي محدود، واليوم تقول: لا سلاح، لا سيادة، فقط إدارة مدنية أو قوة أمنية مراقبة؛ المنطق واحد وإن اختلفت التفاصيل: اختزال القضية إلى معبر وهدنة وميزانية، لا إلى شعب وحق وحرية.
وهكذا تُصنع وقائع جديدة على الأرض، ويُعاد تشكيل التمثيل الفلسطيني بما يناسب موازين القوة لا بما يعكس الإرادة الوطنية.
العبرة التي لا ينبغي أن تغيب هي أن الشعوب لا تبدأ من الصفر كل مرة، لا تحتاج حماس ولا غيرها إلى إعادة إنتاج مسار منظمة التحرير من نقطة الميلاد، بل إلى الانطلاق من حيث انتهى الآخرون؛ من حيث تراكم الخطأ والصواب معاً.
الوحدة الوطنية ليست شعاراً تجميلياً، بل شرطاً لأي تفاوض أو مقاومة أو إعادة إعمار، والرمز الوطني – كوفية أو سلاح أو علم – لا يكفي ما لم ينهض خلفه مشروع سياسي واضح يجيب عن سؤال: ماذا بعد؟
ما يجري اليوم ليس مجرد مفاوضات لوقف إطلاق النار، بل اختبار للفلسطينيين جميعاً وقدرتهم على أن يتعلّموا من مساراتهم السابقة، وأن يميّزوا بين ما ينبغي البناء عليه وما يجب تجاوزه؛ إنها لحظة تُلزم الجميع بأن يقولوا، بوضوح وجرأة: لن نبدأ من الصفر بعد الآن؛ فمنظمة التحرير الفلسطينية لم تكن مجرد إطار مؤسسي، بل صيغة نضالية لتمثيل شعب، وتجسيد لإرادته الوطنية، والوكيل السياسي والشرعي للتفاوض باسمه أمام العالم.
لذلك، فإن المطلوب اليوم ليس البحث عن بدائل مؤقتة أو صناعة ممثّل جديد وفق مقاس اللحظة أو رغبات القوى الدولية، بل العودة إلى النقطة التي ينبغي أن نقف عندها كفلسطينيين: إلى الكيان الجامع والمرجعية الوطنية التي تستوعب الجميع، والتي لا يجوز تفكيكها أو القفز من فوقها مهما تغيّرت السياقات أو تبدّلت موازين القوى، فالمسؤولية تقتضي أن نبني على كفاح منظمة التحرير والتي تراكمت تجربتها، لا من حيث يريد الآخرون أو بعضنا أن نعود.
