طالما تجول في عقلي مجموعة من الأسئلة، لم أجد لها جوابًا قاطعًا: لماذا نحن هكذا؟ ولماذا نفكر بهذه الطريقة؟ وربما بجرأة أكثر، لماذا نعجز عن طرح الأسئلة في لحظات الحقيقة؟ ولماذا نتردّد حين يجب أن نتكلم، أو نتماهى مع ما يحدث كأننا خارج الزمن؟ هل هو الخوف؟ أم التردد أم التعب؟ أم أننا فقدنا القدرة على أن نرى أنفسنا بعيوننا لا بعيون الآخرين؟ أو ربما غُلفت عقولنا بإطار ايديلوجي وديني أعفانا من التفكير خارج الصندوق. هذه الأسئلة المؤلمة بقدر صدقها، هي ما دفعتني إلى كتابة هذا المقال، في محاولةً للبحث في كيف يجب أن نفكّر نحن؟ ولماذا يبدو لنا أن غياب المعنى في لحظتنا الراهنة أخطر من الحرب نفسها.

في زمنٍ تتسارع فيه الدماء والخيبات أكثر من التحليلات، تقف غزة لا بوصفها ساحة حربٍ فقط، بل كمرآةٍ تعكس وعي العالم، ووعي الفلسطينيّ والعربيّ قبل ذلك. ومن هنا، يطرح السؤال على الطاولة أو في العقول بحدةٍ وقلق: إذا كانت واشنطن وتل أبيب تفكران في “اليوم التالي”، فكيف يجب أن نفكّر نحن؟ من نعاني، نتألم ، نقهر، نجوع، ونموت بلا ثمن، وتترك أجسادنا بين الركام بلا سؤال.

اليقين، أن ما يُراد لنا هو أن نفكّر داخل الإطار الذي رُسم لنا: أن نُساق من صور الدمار إلى طاولة الوصاية، من الألم إلى الإدارة الدولية، ومن الكارثة إلى المشروع الإنساني بشكله الظاهر. لكنّ أخطر ما يمكن أن نفعله في مثل هذه اللحظات هو أن نُسلم وعيَنا لغيرنا. فالتفكير الذي يُملى من الخارج يجعلنا نردّ الفعل بدل أن نصنع الفعل، ويحوّلنا من أصحاب قضية إلى ملفٍّ إنسانيأوقعنا فيه أصحاب الرؤية الضيقة، وقرارات الطارئين على مشروع الوطن والدولة يُتداول بين لجان ومبعوثين. غير أن المأزق لا يأتي من الخارج وحده، بل من طبيعة التفكير الداخلي الفلسطيني أيضًا.

فحماس، التي تصرّ على تبنّي معناً خاص بها للسياسة والمقاومة، جعلت من البقاء في الحكم عنوانًا يتقدّم على أي رؤية وطنية أو استراتيجية شاملة. هذا الإصرار الحزبي الضيق على احتكار المعنى، أي تعريف من هو المقاوم، وما هي فلسطين، وكيف تُدار غزة، أدى عمليًا إلى تفريغ الوعي الجمعي من معناه.وحين يغيب المعنى المشترك، تتشتت البوصلة، ويتحوّل الصمود إلى وسيلةٍ للبقاء لا مشروعًا للتحرّر. ليست الخطط وماتتناقله وسائل الاعلام أو اللقاءات من خلف الكواليس، عن وصاية دولية على غزة أو إدارة مشتركة مجرد أفكارٍ سياسية عابرة. إنها ترجمة ميدانية لهندسة وعيٍ جديد، يهدف إلى تفكيك المعنى السياسي للمكان وتحويله إلى كيانٍ مُفرّغ من الإرادة. الحديث عن تقسيم القطاع إلى غزة الشرقية وغزة الغربية، والأفكار المتنوعة حول الإعمار، ليس بريئًا في توقيته ولا في دوافعه.

وفي سياق هذه المشاريع، يطلّ ملفّ الغاز قبالة سواحل غزة كالمحفّز الخفيّ الذي لا يُعلن. في معادلة تبدو بسيطة ولكنها خطيرة: استقرار مقابل استخراج، أو شرقية مقابل غربية، أوالبقاء على حالة ما نراه اليوم، أي أن الأمن يُشترى بالثروة، والثروة تُدار بالوصاية. وهكذا تتحول غزة من رمزٍ للمقاومة إلى رقعة نفوذٍ اقتصادي وسياسي تُدار عبر الوسطاء وتُقسم أرباحها على الطاولة. لكنّ الأخطر، أنّ غياب الرؤية الفلسطينية المشتركة، الناتجة عن اصرار حماس على البقاء في الحكم وتغليب بقاءها الحزبي على المصلحة الوطنية، هو ما يفتح الباب أمام هذه المشاريع.

ولنتذكر، أنه حين تعجز القوى الفلسطينية عن إنتاج معنى جامعٍ لمستقبلها، يكتب الخارج الرواية بدلًا عنها. ومن أجل مواجهة هذه المشاريع، لا يكفي أن نفكّر بعقل الضحية، ولا بعاطفة المنتصر المؤقت. بل ما نحتاجه هو تفكيرٌ مركّبٌ يجمع بين الأخلاق والسياسة، بين الذاكرة والمستقبل.

أن ندرك أن غزة ليست عبئًا على الجغرافيا، بل اختبارٌ لكرامة الوعي العربي.أن نرى في المأساة التي عشناها وما زلنا فرصة لاستعادة المعنى، لا لتجديد العجز الذي يحاصرنا. وأن نعمل على أن يتحرّر القرار الفلسطيني من أسر الحسابات الفصائلية، وأن يُعاد صياغة الوعي الوطني على أساس المصلحة الوطنية وليس المصلحة الحزبية الضيقة. فحماس، وغيرها من القوى، مطالبةٌ اليوم أن تعي أن مشروع المقاومة لا يكتمل دون مشروع وطنٍ يتسع للجميع، لا يُختصر في رايةٍ واحدة أو رؤيةٍ واحدة.

أن نفهم كلنا بلا استثناء مثقفين ومحللين وساسة وفصائل وعامة الشعب، أنّ الصراع في غزة اليوم وعلى الغاز والحدود ليس منفصلًا عن الصراع على الوعي والسيادة. و أن نعيد بناء علاقتنا بالمكان، لا فقط كأرضٍ تُستعاد، بل كرمزٍ يُعاد تعريفه. بل ونجتهد بكل ما نملك من أدوات وأفعال أن نحمي الإنسان الغزّي من أن يتحول إلى ورقة تفاوض، وأن نحافظ على قدرة الناس على الفعل، لا مجرد التحمّل.

في الختام، أقول لك أيها القارئ، إن أخطر ما يُحاك لغزة ليس ما يُدبّر في الغرف المغلقة، بل ما يُزرع في العقول بعد أن تهدأ المدافع: أن نُنسى، وأن يُعاد تعريفنا، وأن يُقال إننا لا نستحق أن نُحكم أنفسنا. لهذا، فإن التفكير اليوم ليس ترفًا فكريًا، بل مقاومة من نوعٍ آخر. فمن لا يشارك في صياغة وعيه، سيُكتب مستقبله بيد خصمه أو بأسوأ من ذلك، بيد من يدّعي تمثيله بينما يعيش في ظلاله. وغزة اليوم، بأوجاعها التي لا توصف وبجمالها الذي ما زلت قلوبنا تحمله، وبصمودها الذي لا يشبه سواها، تقول لنا بوضوح: “احمِ المعنى أولًا… فالمعنى هو آخر ما يبقى حين ينهار كل شيء.

شاركها.