رغم ادعاء الرئيس الأميركي بأنه قد وضع حداً لثماني حروب في مختلف أرجاء الكرة الأرضية، ورغم ان حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، كانت أكثر تلك الحروب فظاعة، حتى انها تعد أسوأ بكثير من الحرب الروسية الأوكرانية، ورغم التوصل الى اتفاق وقف الحرب، إلا ان الحكومة الإسرائيلية برئاسة نتنياهو، ما زالت تواصل الحرب، وإن كان بوتيرة أقل، لكن بما يؤدي الى قتل عشرة مواطنين فلسطينيين، وإصابة ثلاثين آخرين يومياً، وذلك بهدف الإبقاء على حالة الحرب، بما يجعل من العودة الى وتيرتها القصوى التي كانت عليها طوال عامين قائمة، وحتى يجعل من الانتقال الى مساري الإعمار والتسوية السياسية أمراً صعب المنال، إن لم يكن مستحيلاً، لأن نتنياهو قاد اليمين أصلاً منذ ثلاثة عقود، على طريق الانتقال به من اليمين التقليدي او حتى الليبرالي الى اليمين الأيديولوجي المتطرف، ليس من أجل جعل إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة أمراً مستحيلاً فقط، بل من أجل فتح الباب واسعاً، أمام قيام دولة إسرائيل الكبرى، التي تبدأ أولاً بضم ارض دولة فلسطين، أي تقوم على كامل ارض فلسطين الانتدابية، ثم تتوسع في كل الاتجاهات حيث يمكنها ذلك وصولاً لنهري النيل والفرات.
وهذا ليس ادعاء، ولكنه حقيقة أعلنها المرصد الأورومتوسطي لحقوق الانسان، حيث اشار الى ان إسرائيل تواصل حرب الابادة، صحيح بوتيرة أقل ضجيجاً، ولكن بمنهجية جديدة، تقوم على خرق وقف اطلاق النار بشكل يومي، واستهداف المدنيين في مراكز النزوح والمنازل والخيام، وانها اي إسرائيل تتبع سياسة التصعيد المتدرج، بتحويل اطلاقها للنار من قصف متقطع الى موجات ابادة واسعة، بحيث كانت النتيجة خلال اول عشرين يوماً هي قتل 219 فلسطينياً بينهم 85 طفلاً، وإصابة نحو 600 آخرين، وأشار المرصد الى ان الجيش الإسرائيلي نفذ موجتي عدوان كبيرتين، واحدة يوم 19 تشرين الثاني، أسفرت عن مقتل 47 فلسطينياً، والثانية يومي 28 و29 تشرين الثاني حيث قتل 110 فلسطينيين، والحقيقة ان إسرائيل وبعد اكثر من عام على التوصل لاتفاق إطلاق النار في لبنان، ما زالت تشن الغارات على مختلف المناطق اللبنانية وتقتل الضحايا من المدنيين، وهي تقوم باستباحة السيادة السورية منذ اكثر من عام أيضاً، وتقتل المدنيين السوريين، وليست بحاجة لمبرر، منطقي على الأقل، او يتوافق مع القانون الدولي، لكن ذلك يشير الى ان إسرائيل ما زالت تسير على طريق محاولة فرض نظامها الشرق أوسطي، وإن كان وفق استراتيجية متدرجة، بعد ان واجهت صعوبة فعلية في فرض ذلك النظام سريعاً.
هنا لا بد ان التفكير بهدوء، ومحاولة الوقوف عند سؤال جوهري، هو هل إسرائيل بتركيبتها الحالية دولة قابلة للتعايش مع الشرق الأوسط الحالي بدوله العربية والاسلامية في معظمها، وهل هذا يعني بأنها كانت قبل وقع التحول الداخلي، 1977، حين انتقل الحكم من حزب العمل، وريث المعراخ مؤسس الدولة، الذي كان يعد يسارياً أو حتى اشتراكياً في يوم ما، الى الليكود اليميني، برئاسة مناحيم بيغن، ومن ثم تتابعت السلسلة حتى وصلت نتنياهو، عبر اسحق شامير، فنتنياهو، فأرئيل شارون، ثم اهود اولمرت فنتنياهو مجداً، هل هذا يعني بأن حلم إسرائيل الكبرى خاص باليمين دون اليسار؟
لا يمكن الجزم بالطبع، نظراً الى ان اليسار عام 1992 وقع اتفاق أوسلو مع م ت ف، بما يعني ضمناً، بأنه موافق على حل الدولتين، بينما اليمين، فضلاً عن اليمين المتطرف، اندفع عام 1996 لقطع الطريق على ذلك الاتفاق، ومنع تحوله الى الحل الدائم، الذي كان يجب ان يفضي لإقامة الدولة الفلسطينية، واذا كان اليمين الصهيوني، ما زال مخلصاً لأيديولوجيا جابوتنسكي، ويقول صراحة بانه يسعى لقيام إسرائيل الكبرى، وانه يرفض رفضاً قاطعاً حل الدولتين، وينعت الدولة الفلسطينية بمنطق عنصري فاضح بأنها «دولة إرهابية»، فإن اليسار الإسرائيلي الذي لم يعد موجوداً على اي حال، وآخر ما بقي منه «حزب الديمقراطيين « حالياً وهو ائتلاف مما تبقى من حزبي ميرتس والعمل، لا يتضمن برنامجه الانتخابي بنداً اعتراضياً على اليمين، بالقول بأنه مع حل الدولتين، او حتى مع الحل السياسي فضلاً عن اختفاء مصطلح الدولة الفلسطينية من قاموسه السياسي، هذا مع ان نحو 150 دولة في العالم تعترف بدولة فلسطين، أي اكثر من 75% من دول العالم.
واضح بأن اليسار الإسرائيلي _ان صح التعبير_ هو اكثر براغماتية من اليمين المتطرف ومن اليمين التقليدي، اللذين يخلصان للأيديولوجيا، ويحملان السياسة خطوطها العامة، بما يثقل كاهلها، وبما يجعلهم يقابلون بالرفض من قبل كل العالم، وحتى من قبل أكثرية الإسرائيليين واليهود انفسهم، لكن الفارق قد يكون بالدرجة وحسب، وهذا الفارق يتضاءل لحد ان يتلاشى أحياناً، كما هو الحال الآن، وذلك تبعاً لحالة الصراع المحيط بإسرائيل وليس تبعاً للصراع داخلها، فإن نجح الفلسطينيون في إدارة الصراع مع إسرائيل بشكل فعال، كما فعلوا في الانتفاضة الأولى عام 1987، حينها، تتغلب البراغماتية الإسرائيلية على الأيديولوجيا، أما إن كان العكس، فتتغلب الايديولوجيا على البراغماتية وهكذا، ولعل جذر الأمر كله يتضح بسهولة منذ تأسيس «دولة إسرائيل» والتي كانت على يدي اليسار العلماني وحتى الاشتراكي، حين شكلت «الكيبوتوسات والموشافيم» اي التعاونيات الزراعية، التي كانت أشبه «بالكولخوزات السوفياتية» العمود الفقري للاستيطان الاستعماري، ولعبت دوراً محورياً في بناء الاقتصاد والأمن.
لكن ليس هذا هو الأهم فيما نريد قوله، بل وبالإشارة الى إعلان ديفيد بن غوريون قيام «دولة إسرائيل» في الخامس عشر من أيار عام 1948، ورغم ان ذلك الإعلان جاء بعد قرار التقسيم، وعشية إعلان بريطانيا انتهاء انتدابها على فلسطين، الذي كان ما بين عامي 1918_1948، إلا ان إعلان «دولة إسرائيل» لم يتضمن اقرار دستور يحدد طبيعة الدولة ولا حدودها، وان كان تحديد طبيعة الدولة في ذلك الوقت سيفقدها تأييد نصف العالم، نقصد العالم الاشتراكي وحتى دول الغرب الرأسمالي كانت ستستهجن إعلان إسرائيل كدولة دينية يهودية، حيث كان العالم في ذلك الوقت بشقيه الشرقي والغربي يدعو للدولة العلمانية، المدنية او دولة المواطنة، بما يفسر عدم تعريف إسرائيل كدولة يهودية، اما عدم الإشارة الى حدود الدولة، لا تلك التي نص عليها قرار التقسيم، ولا تلك التي جاءت نتيجة الحرب مع الجيوش العربية والتي انتهت باحتلال «دولة إسرائيل» الناشئة لنصف ارض دولة فلسطين وفق قرار التقسيم، والتي بقيت كذلك بعد اتفاقيات الهدنة التي عقدت مع دول الجوار العربي، مصر والأردن وسورية ولبنان وذلك في عام 1949، فقد كان لذلك شأن آخر.
وبقيت حدود إسرائيل غير محددة، اي مفتوحة حتى عام 1967، حيث احتلت أراضي ثلاث دول عربية هي التي خاضت الحرب معها، وعلى اعتبار ان مساحة إسرائيل عام 49 كانت نحو 20 ألف كم2، فذلك يعني بان احتلالها سيناء التي تبلغ ثلاثة أضعاف مساحتها، والجولان وقطاع غزة، والضفة الغربية، التي تبلغ مساحتها ربع مساحة إسرائيل المعلنة عام 1948، بما يعني بأن إسرائيل احتلت نحو أربعة أضعاف مساحتها المعلنة حين أُعلن قيامها.
وبعد عام 1967، كانت إسرائيل بين فينة وأخرى، وخلال حكومات اليسار اولاً واليمين ثانياً، تعلن «ضم» بعض المناطق والأراضي التي احتلتها عام 67، ولم تشر ابداً ولا في يوم من الأيام بأن ما احتلته من ارض دولة فلسطين عام 48 ارض محتلة، وقد أعلنت إسرائيل في ظل حكومة «اليسار» وبعد اقل من شهر من احتلال الضفة الغربية عن ضم مدينة القدس، ثم اعلن في ظل حكومة الليكود عام 1981 ضم الجولان السوري.
أما هذه الأيام، فإن إسرائيل تهدد كل الوقت بضم الضفة الغربية، او أجزاء منها، أي أنها ما زالت بحدود دولية مفتوحة، وتتحين الفرصة المناسبة للإعلان رسمياً عن هذا، اعتماداً على زرع الاستيطان على الأرض، ثم ان إسرائيل اخترعت مفهوم الحدود الأمنية، وبدأت به في اتفاقية كامب ديفيد، التي جعلت من معظم سيناء منزوعة من السلاح المصري، وها هي تسيطر على أجزاء إضافية من سورية ومن لبنان، وتسيطر على نصف قطاع غزة، وراء الخط الأصفر، وفق المنطق الغريب، الذي يجعل من أرض الغير منزوعة السلاح وليس من أرضها، او حتى من أراضي الطرفين، بل أكثر من هذا ولأجل سيطرتها المطلقة على الشرق الأوسط، لا تقول صراحة باحتلاله مباشرة، لكن وفق منطق أمن إسرائيل، تسعى الى نزع سلاح الردع الذي يمكنه أن يقف في وجه قوتها العسكرية الهائلة، وما إصرارها على نزع سلاح إيران الصاروخي إلا دليل دامغ على هذه النزعة التوسعية الاستعمارية.
