إذا جاز لنا الكلام عن مراحل تكوينية في حياة نتنياهو، فإن أكثرها أهمية بقدر ما يتعلّق الأمر بسيرته السياسية، بدأت مع عودته إلى إسرائيل في أواخر الثمانينيات، والعمل تحت جناح موشي أرينز، راعيه الأوّل، الذي شغل منصب وزير الخارجية في ذلك الوقت. وفي سياق كهذا، كان إجهاض مؤتمر مدريد، الذي نظمه الأميركيون في العام 1991، وما قد يترتب عليه من نتائج سلبية في نظر اليمين الإسرائيلي، وحلفائه من رجال المال والسياسة في الولايات المتحدة، من أوائل المهام التي خاض غمارها، وأسهمت في صقل أدوات لا تُغني عنها البلاغة، وأفانين الدعاية والإعلام.
كان مؤتمر مدريد لحظة فارقة في التجربة السياسية لليمين الإسرائيلي. لم تكن اتفاقية السلام مع مصر مقبولة من جانب أوساط قوية في الليكود لم تكن راضية، أيضاً، عن سلوك مناحيم بيغين في حرب العام 1982. وقد أثار التزام حكومة شامير (وريث بيغين) بعدم الرد على الصواريخ العراقية في حرب تحرير الكويت، وكذلك ذهابها إلى مدريد، بعد ضغوط أميركية في الحالتين، مخاوف هؤلاء من احتمال التعرّض لمزيد من الضغوط، وتقديم تنازلات في موضوع الجولان والضفة الغربية وقطاع غزة.
ومع هذا كله في البال، يمكن القول إن عقد التسعينيات كان حاسماً في السيرة السياسية لنتنياهو، بالمعنى الضيق للكلمة، وفي سيرة وتحوّلات اليمين الإسرائيلي (في إسرائيل ودفيئاته المالية والأيديولوجية في الولايات المتحدة) بالمعنى العام والكبير للكلمة. ويمكن تشخيص هذا الأمر على النحو التالي:
لكي يتمكن هؤلاء من إحباط «الحمائم» الإسرائيليين، وقطع الطريق على ميولهم التي تُنذر بالخطر، يجب أن يبقى تحالف اليمين، بزعامة الليكود، في سدة الحكم. ولكي يبقى التحالف في سدة الحكم فإن ضمانته الرئيسة هي استرضاء وتوسيع قاعدته الانتخابية، مع كل ما ينطوي عليه أمر كهذا من سياسات اقتصادية، وتحوّلات أيديولوجية، وإعادة هيكلة للتراتبية الاجتماعية، وموازين القوى في الحقل السياسي. ومع ذلك، لا فائدة من البقاء في سدة الحكم، وتوسيع القاعدة الانتخابية، ما لم تتوفر ضمانات كافية بشأن علاقة «آمنة» بالأميركيين.
وإذا جاز لنا النظر، الآن، بأثر رجعي إلى ما طرأ من تحوّلات على بنية الدولة والمجتمع الإسرائيليين، على مدار العقود الثلاثة الماضية، سنجد أنها تقبل القياس بمسطرة استرضاء وتوسيع القاعدة الانتخابية (وهذه وصفة أكيدة جعلت من الشعبوية ممراً إجبارياً) ناهيك عن حقيقة أن الأمركة، في حقل السياسات الاقتصادية، تعني تقويض القاعدتين الاقتصادية والاجتماعية للعماليين، وتمكين شرائح اقتصادية واجتماعية جديدة من النشوء والازدهار.
وإلى هذا كله نُضيف أن العماليين خسروا سباق الرهان على الاستيطان في الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان، لأن «جمهورهم» لم يكن قادراً على قيادة مشروع التوسّع الاستيطاني، ورفده بما يحتاج من مستوطنين وأموال وأيديولوجيا تصلح للتحريض والتجنيد والتمويل.
لذا، ما شكّل نوعاً من المأزق في أوساط العماليين تجلى كفرصة ذهبية في أوساط الليكود، وحلفائه في معسكر اليمين. واللافت، بقدر ما يتعلّق الأمر، بتاريخ الأفكار والحركات السياسية، أن مشروع الاستيطان، معطوفاً على سياسات أملتها ضرورات البقاء، شكّل حاضنة نشأ فيها ما سيعرف بالمعسكر القومي ـ الديني، وهي التي أمدته بأسباب النمو والازدهار.
يتضح، مع كل ما تقدّم، أن ما شخّصناه باللحظة الفارقة في التجربة السياسية لليمين الإسرائيلي، منذ بداية التسعينيات، وعرضنا لتجلياته في خيارات وسياسات الليكود بالمعنى العام، يلقي مزيداً من الضوء على التجربة التكوينية الأهم في سيرة نتنياهو السياسية. ومع الوصول إلى هذه النقطة، بالذات، صار في وسعنا الكلام عن العلاقة «الآمنة» بالأميركيين.
وهذا يستدعي، وفي البال نشأته وخبراته الأميركية، تحويله إلى وسيلة إيضاح. فلا يمكن، في الواقع، التفكير في تطور العلاقة بالولايات المتحدة، وصولاً إلى طورها الترامبي الفضائحي الأخير، دون الكلام عن نشأة نتنياهو في أوساط المحافظين الجدد، وطموح هؤلاء لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، بعد نهاية الحرب الباردة.
الملاحظة الأهم، في هذا الصدد، أن علاقة نتنياهو ببيئته الأميركية لن تكون مفهومة بوصفها علاقة مع أحزاب وقوى سياسية. ومن الأفضل، دائماً، تفسيرها كعلاقة بأوساط مالية تُعد ثرواتها بالمليارات، وتتمثل في عائلات تحكم اللعبة السياسية، وتتحكم بها، من خلال ما لها من نفوذ في، وعلى، وسائل الإعلام، وما تقدّم من تبرعات مالية في الحملات الانتخابية، التي لا تقتصر على مجلسي النواب والشيوخ وحسب، بل وتشمل الحكومات المحلية في مختلف الولايات.
وفي سياق كهذا، نعرف أن علاقة «صداقة» نشأت بين نتنياهو وكوشنر الابن، وفي الليلة التي قضاها في بيت العائلة، أخلى له الابن غرفته. كما نشأت علاقة بينه وبين ترامب الأب (لا أفهم كيف مع فارق السن والوسط الاجتماعي).
وبالعودة إلى سجل العائلات التي أسهمت في إنشاء مؤسسات إعلامية لليمين يبرز اسم مركز شاليم (1994) الذي موّلته عائلة ادلسون، وهي العائلة نفسها التي تنفق على جريدة «إسرائيل اليوم»، الذراع الدعائية لنتنياهو، والتي توزع مجاناً. أسهمت العائلة بسخاء، أيضاً، في تمويل حملات ترامب الانتخابية، وكانت وراء نقل السفارة الأميركية إلى القدس في ولاية ترامب الأولى. ثمة عائلات أقل شهرة، ولكنها لا تقل مالاً ونفوذاً. وهناك الكثير من التفاصيل في الانتظار. فاصل ونواصل.
