ظلَتْ ذكرى وعد بلفور يوم 2111917 تسكنني منذ قرأت عنه في المرحلة الإعدادية، وسأظل أذكر أستاذي لمادة التاريخ والجغرافيا وهو يردد مقولة الرئيس جمال عبد الناصر: «لقد أعطى مَن لا يملك وعداً لمن لا يستحق».
حفظنا هذه المقولة التي صارت أغنية في كل وسائل الإعلام في تلك الفترة، هذه الأغنية تحولت إلى مخدر لذيذ يشبه المسكنات الطبية للتنفيس عن غضبتنا وألمنا، ولكنني ظللتُ غير مقتنعٍ بما ردده أستاذي ذاكراً سبب إصدار هذا الوعد: «منح اللورد، آرثر جيمس بلفور هذا الوعد لرئيس الجالية اليهودية في بريطانيا، ليونيل روتشيلد، مكافأة له، لأن روتشيلد اكتشف مادة الأسيتون من نبات الذُرة، مع العلم أن مادة الأسيتون ضرورية لصناعة الألغام المتفجرة، وأسهب أستاذنا في الشرح، وكنا في تلك الفترة لا نعرف صلة هذه المادة بالمتفجرات، قال أستاذنا: «ليونيل روتشيلد كان متخصصاً في علم الكيمياء»!
أدركتُ بعد فترة طويلة عندما بحثت في مناسبة وتاريخ الوعد أن أستاذي لم يُعر انتباهاً إلى آخر جملة مهمة وردت في نهاية الوعد جاءت على لسان آرثر بلفور: «سأكون ممتناً إذا أحطتم الاتحاد الصهيوني (القوي في أميركا) علماً بهذا الوعد»!
أدركت بعد سنوات أن للوعد الأليم سبباً آخر يعود إلى أن هذا الوعد مُنح في ذروة الحرب العالمية الأولى 1914 1919، حيث كانت الحاجةُ ماسة لكي تشارك أميركا عسكرياً في نصرة حلفائها، وبخاصة بريطانيا، ولكي يتحقق ذلك لا بد من تجنيد اللوبي اليهودي المؤثر في أميركا لإقناعها بأن تناصر الخلفاء، وأن قصة اختراع، روتشيلد، عالم الكيمياء لمادة الأستون لم تكن هي المقصودة بالدرجة الأولى!
كما أنني اكتشفتُ بعد ذلك أن اللورد، بلفور كان مسيحانياً من طائفة الإنجليكان، ممن كانوا يؤمنون بأن عودة الماسيح لن تتحقق إلا بتأسيس دولة لليهود، وأن كثيرين من أعضاء البرلمان البريطاني كانوا يودون التخلص من تأثير اليهود في بريطانيا!
اكتشفت أيضاً في القرن الماضي أن هناك مؤتمراً عالمياً وسياسياً عقده رئيس وزراء بريطانيا، هنري كامبل بنرمان ضم سبع دول أوروبية، شارك فيه عدد كبير من العلماء والباحثين السياسيين والاقتصاديين استمر المؤتمر عامين كاملين 1905 1907 وهو سابق على وعد بلفور بعشر سنوات كاملة، كانت غاية المؤتمر هي محاصرة دول العرب وتفريقهم وذلك لخطورتهم على مسيرة العالم، وكان من أبرز توصيات المؤتمر (زرع كيان غريب بينهم) لتقسيمهم وإحداث نزاع دائم بينهم، ولم يذكر المؤتمر إسرائيل بالاسم!
إذاً، كان وعد بلفور تتويجاً لأبحاث تاريخية وخطط سياسية، أهم بكثير من قصة مادة الأستون!
كما أنني انشغلتُ بالبحث عن تعبير ورد في نص الوعد وهو: «إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل بريطانيا غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية».
كنتُ دائما أتساءل: «لماذا لم يكتب بلفور (تأسيس دولة) بل قال (وطن قومي للشعب اليهودي)؟!
اكتشفت بعد سنوات أيضاً، أن الصهيوني المشارك في نص الوعد، وهو، والتر روتشيلد كان أول رئيس لدولة إسرائيل سأل بلفور السؤال نفسه، فأجاب بلفور: «وطن قومي وليس دولة، حتى لا نستثير الشعوب العربية ونساعد على ثورتها في وجهنا، فنحن نحتاج نصرتها لنا في هذه الحرب»!
أما القضية الثالثة التي شغلتني كثيراً في إطار بحثي في فسيفساء المجتمع الإسرائيلي وسياسة رجال الأحزاب، كانت سؤالاً أيضاً: لماذا لا تحتفل إسرائيل وتخلد هذه المناسبة؟ لأنني لم أرصد أي احتفالات بهذه الذكرى، سوى الاحتفال بمرور مائة عام على هذا الوعد، وقد جرى الاحتفال في بريطانيا نفسها في عهد رئيسة الوزراء السابقة، تيريزا مي، يوم 2112017، وقد حضر هذا الاحتفال نتنياهو وزوجته، سارة!
عثرتُ بعد فترة طويلة على الإجابة: وهي أن الإسرائيليين لا يؤمنون ولا يعترفون بأن وعد بلفور البريطاني هو مؤسِّس إسرائيل، فهم يؤمنون بأن إسرائيل أُسست وأُقيمت بحد السيف وبقوة الصهاينة الإسرائيليين وحدهم، ولم تؤسَّس بالوعود، هم يؤمنون كذلك بأن بريطانيا عرقلت تأسيس إسرائيل ثلاثين سنة، فهي مذنبة في حق اليهود!
سأظل أتذكر سبب إقصاء، جيرمي كوربيون رئيس حزب العمال البريطاني عن رئاسة حزب العمال، لأنه قاطع الاحتفال بألفية وعد بلفور، التي جرتْ في لندن بحضور نتنياهو وزوجته، واستقبال، رئيسة الوزراء، تيريزا مي، لهما بحفاوة. أُقصي، كوربيون عن رئاسة حزب العمال بسبب امتناعه عن حضور الاحتفال دارتْ حربٌ علنية عليه، وعلى حزبه، من الإسرائيليين، كتب الصحافي الإسرائيلي، ألكسندر إيفل، في صحيفة يديعوت أحرونوت 10112017: «جيرمي كوربيون منحازٌ للفلسطينيين، وهو صديق لحماس، وحزب الله. يتجاهل، كوربيون إسرائيل وديموقراطيتها، هو يشبه جورج غالوي، وكين لفنغستون، اللذين صرحا تصريحات لا سامية، هو عدو الجالية اليهودية البريطانية».
رد كوربيون قائلاً: «على إسرائيل أن تُطبق الشقَّ الثاني الذي لم يتحقق من وعد بلفور: (عدم الانتقاص من الحقوق المدنية والدينية لسكان فلسطين)، ما زالت إسرائيل تُنكر حقوقهم، وتتوسع في الاستيطان، فلنجعل ذكرى الوعد مناسبة للاعتراف بحل الدولتين، على إسرائيل أن تُنهي احتلالها».
نشرت صحيفة الجروسالم بوست يوم 2112017 تقريراً جاء فيه: بعد احتفال حكومة بريطانيا بمئوية بلفور، اقترح السناتور الأميركي الجمهوري، جيمس لانكفورد، من ولاية أوكلاهوما، والس ناتور الديموقراطي، جوي مانشن، إصدار قانونٍ للاحتفال بمئوية وعد بلفور في الكونغرس، لأن إسرائيل هي الحليف الأقوى لأميركا، وينص القرار المنوي إقراره: «حصل الشعب اليهودي على وطن بعد ثلاثة آلاف عام، لذا فمن المفضل أن تُخلِّد أميركا هذا الحدث، الذي أدَّى إلى ولادة إسرائيل»!
أخيراً: هل يُعتبر اعتراف بريطانيا بدولة فلسطين في شهر أيلول 2025 (بشروط) اعتذاراً بريطانياً عن وعد بلفور وعما سببه الوعد للأجيال الفلسطينية؟ أم هو محاولة هروب من مطالبة أصحاب الحق، الفلسطينيين بتعويضات عن آثار هذا الوعد تتجاوز المليارات؟ أم هو يمثل عودة الديموقراطية إلى حكومة بريطانيا؟ أم هو محاولة لإحباط التظاهرات البريطانية الصاخبة ضد مجازر جيش الاحتلال في غزة والضفة الغربية؟!
