طرحنا في المقالين السابقين بعض الأفكار الضرورية للخروج من المأزق السياسي، والإنساني الذي يعيشه أهلنا في غزة، ولقطع الطريق، ما أمكن، أمام تعميم هذا المأزق على الكل الفلسطيني، رغم البوادر الواضحة لهذا التعميم وإن كانت تتفاوت بين منطقة جغرافية وأخرى، أو حق سياسي وآخر.
لقد تحدثنا حول الهدف العام من نضالنا كفلسطينيين، وحول علاقتنا بالعالم، وحول دوافع وشكل نضالنا، وما طرأ عليه من تغيرات جوهرية في السنوات الأخيرة وصولاً إلى السابع من أكتوبر، وفي هذا المقال سنتناول شرطين اثنين قد يساهمان، إن تم الالتفات إليهما وإيلاؤهما الاهتمام الكافي، في الخروج من هذا المأزق، وهما ضرورة إعادة تعريف المصطلحات والمفاهيم، وضرورة البحث عن وظيفة.
ولأن الشرط الأول ضرورة حتمية، وهو نتيجة حتمية كذلك للشرط الثاني، أو هو لا يتحقق إلا من خلال النوايا الجدية لتحقيق الشرط الثاني، أي أن إعادة ضبط وتعريف المفاهيم تتم تدريجياً في طريق البحث عن وظيفة، وهي بالتالي تنير هذا الطريق أكثر فأكثر، فسوف أبدأ بفكرة البحث عن وظيفة، علّنا نستدل سويّاً على أدواتنا اللازمة لإنجاز هذا الشرط، وعلى كيفية تسخير هذه الأدوات بما لا ينتقص من مكانتنا ومكاننا في الخريطة القادمة للشرق الأوسط، والتي هي في طور التشكّل شئنا أم أبينا، وافقنا أم أنكرنا.
اعتاد كتّاب اليسار العربي، وفيما بعد زملاؤهم من بقايا القوميين، أو النشطاء الذين تعجبهم لغة «المفكر العربي» والداعم لها، أن يصفوا الدولة التي لا تروقهم سياساتها أو دورها بمصطلح «الكيان الوظيفي». لقد عانى الأردن تحديداً من هذه التهمة، ما جعل مفكراً مثل المرحوم ناهض حتر، مثالاً لا حصراً، يكرّس حياته وقلمه للدفاع والوقوف في وجهها، ولخلق سردية وطنية مؤسَسَة على نفيها.
كما عانت مصر في أوقات متفاوتة من ذات التهمة، كونها دولة حدودية مع دولة الاحتلال، ولا تقوم «بدورها» القومي أو العروبي أو التحرري. لكن سورية مثلاً، ورغم كونها دولة حدودية هي الاخرى، ورغم احتلال جزء من أرضها، وهدوء جبهتها عقوداً طويلة، إلا أنها أفلتت من هذا التوصيف، ولم يقم أحد باتهامها بأنها كيان وظيفي مهمته الحفاظ على وضعية «لا سلم ولا حرب»، أو العداء للممثل الشرعي للفلسطينيين وتصعيب عمله، أو الحفاظ على الحدود هادئة ومستقرة.
وبغض النظر عن مشروعية الاتهامات السابقة أو عدم مشروعيتها، أو حتى انتقائيتها أو سذاجتها، فإن مصطلح «كيان وظيفي» أو «دولة وظيفية»، وبقليل من الدراسة والتمعن، ودون جهد كبير، يمكن إطلاقه على إسرائيل ذاتها، كما يمكن تعميمه على مجمل الكيانات في الشرق الأوسط، وتوسيع الدائرة لتشمل عشرات الدول في منطقتنا وغير منطقتنا. وهنا يبرز السؤال المهم: من هي الدولة التي تخلو من وظيفة، وأين هو الكيان غير الوظيفي، وما هي الوظيفة المقبولة أو تلك غير المقبولة، ولصالح من يتم تنفيذ هذه الوظيفة مهما كانت، ومقابل ماذا؟
علينا أولاً أن نتفق حول من هو الطرف الذي تتم هذه الوظيفة لصالحه، وهل يتبدل هذا الطرف دون أن ينتبه مقدم الوظيفة، وهل تتغير الوظيفة ذاتها دون أن يتبدل مقدمها، أم أن هذه الأطراف ثابتة رغم تغيّر الظروف والمصالح؟ أي هل بإمكاننا القول إن قطر وظيفتها إمداد الغرب بالغاز، ونقطة؟ وماذا ستكون وظيفتها لو نضب هذا الغاز في يوم من الأيام، أو برزت هناك حقول أضخم في دولة أخرى؟
الجواب لا يمكن فهمه إن ظل محصوراً في مصطلح «الاستعمار»، القديم أو الجديد. ولا يمكن التعويل عليه إن تغيّر إلى مصطلح آخر أقل عدوانية وأكثر تعميمية وهو «الغرب». لكنه يبدو مفهوماً، وحتى وطنياً، فيما لو كان هذا الجواب هو «العالم»، وخصوصاً العالم في شكله الجديد، الذي يزيح عن أكتافه قدسية الحدود، وقدسية المشاعر القومية، لصالح فكرة التنمية المشتركة والمساهمة الجمعية في هذه التنمية.
قد يحتج كثيرون على هذا الكلام ويعتبرون العالم في شكله الحالي أكثر وحشية من عالم الاستعمار، وهو عالم تقاسُم النفوذ وتقاسُم عائد التجارة من قِبل الأقوياء، وهذا صحيح فقط في حالة مفادها وجوهرها أن لا وظيفة لك فيه، وحين تكون إما على الهامش، أو تتخذ لنفسك وظيفة أكبر من حجمك ومن قدراتك، وهي وظيفة التعطيل أو الإعاقة، وساعتها لن تكون نهايتك إلا السحق في أحسن الأحوال. ولو تمعّنا في هذا المفهوم قليلاً، ودون انحيازات، وبالحد الأدنى من الموضوعية، لاستطعنا تحليل ما وصلنا إليه في غزة، بعيداً عن ثنائية حماسإسرائيل، وبعيداً عن ثنائية العدوان الحق التاريخي.
ما هي الوظيفة التي يمكننا القيام بها إذا؟ يعتمد هذا على قدراتنا الحالية وتطويرها، وعلى المجالات التي نبدع فيها، وعلى قوتنا في إجبار العالم أو إقناعه بعدم تجاهلها أو الاستغناء عنها. ولا يمكن أن يتأتى ذلك، دون فهم وظيفة عدونا السابقة، ودون القناعة التامة بأن وظيفته تلك انتهت، وهو يبحث مثلنا عن وظيفة جديدة في العالم الجديد.
ولأن هذا مقال في العموميات النظرية التي سنأتي على تفصيلها في مقالات قادمة، فلا بد أن يكون الشرط الثاني الذي سنتطرق له عمومياً أيضا، وهذا الشرط هو إعادة تعريف المفاهيم والمصطلحات. وبرأيي لا أفضل من الأسئلة للنقاش حول العموميات أولاً، ولإشراك القارئ في محاولة الوصول إلى الإجابة ثانياً.
ما معنى السيادة في عالم مهمته الحالية تكسير الحدود؟ ما معنى الدولة حين يكون عدد سكانها أقل من عدد موظفي شركة عابرة للحدود؟ وما هو تعريف الشعب تبعاً لذلك؟ ولا أريد هنا أن أطرح سؤال الشعب تبعاً لما حصل في غزة، وخروج البريطانيين إلى الشوارع احتجاجاً على حرب الإبادة، بينما جلس جزء من الفلسطينيين يتفرج عبر الشاشات؟ ما معنى العمق العربي والإسلامي حين نقارن إندونيسيا بإسبانيا كشعبين وكحكومتين؟ كيف نعبّر عن الكرامة الوطنية بغير الموت، وكيف نحارب من أجل حرية لم نتفق على تعريفها؟ وآلاف الأسئلة الأخرى التي نتجاهلها في طريقنا إلى الهدف الذي نجهله أيضاً، بكل أسف، رغم مكابرتنا وعلو أصواتنا.