لم يكن أحد يتوقع أن تطول الحرب بكل ما حملته من وحشية على امتداد أشهر تجاوزت العامين، تذوّقنا خلالها طعم الخوف والتوتر والقلق. كانت كل ليلة تمرّ وكأن عمراً جديداً يُكتب لنا، فيما ظلت تلك المشاعر الثقيلة تساكن قلوبنا. كنا نستيقظ على أخبار الشهداء والجرحى التي تتجاوز يومياً المئات من الأطفال والنساء والمقاومين على خطوط المواجهة. وعبر الشاشات، كنا نتابع صور الدم والأنين والمآسي، نُردد الدعاء بالسلامة، ونترحّم على من قضوا؛ ممن نعرف وممن لا نعرف.
منذ الأيام الأولى، كانت التفجيرات تهزّ المدينة، والعمارات والأبراج تتهاوى فوق سكانها في مشاهد أشبه بيوم قيامة. كان واضحاً أن المطلوب هو صناعة هلعٍ شامل يطال الروح قبل الجسد. الرسالة الإسرائيلية كانت صريحة: كل الفلسطيني مستهدف، وما “حركة حماس” إلا الشماعة التي يعلّق عليها الاحتلال تبرير مجازره. وهكذا امتد الموت ليطال الجميع دون استثناء؛ مدنيين ومقاومين ونساءً وأطفالاً وشيوخاً ومرضى. حتى من احتموا بالمدارس والمشافي والمساجد لم يسلموا، فازدحمت هذه الأماكن بآلاف الهاربين من النار، فيما أقام آخرون خيامهم في الساحات والملاعب بحثاً عن مساحة آمنة.
ومع سبق الإصرار، جعلت إسرائيل كل مكان هدفاً، حتى لم يعد الفلسطيني يجد موطئ قدم يشعر فيه بالأمان. تصاعدت أعداد الشهداء بالآلاف، وبات واضحاً أن رأس كل فلسطيني هدفٌ مشروع للاحتلال، بلا حرمة لطبيب أو صحفي أو طواقم إسعاف أو دفاع مدني.
أمام هذا المشهد القاتم، أسلمت نفسي لما هو مقدَّر، وعاهدت الله أن أقوم بواجبي الديني والوطني تجاه أهلي ونازحي غزة، مدركاً أن «الأعمار بيد الله، ولا يُغني حذرٌ من قدر». قررت، كما فعل الكثيرون، أن أوقف حياتي وأتفرغ لخدمتهم، ففتحنا بيوتنا وتقاسمنا ما نملك من سكن وأثاث وطعام. كثير من النازحين خرجوا حفاة أو شبه عراة، تاركين خلفهم بيوتهم وحياتهم بحثاً عن نجاةٍ باهظة الثمن.
أقمنا مركز إيواء بسيطاً، زوّدناه بالخيام، وتكفّلنا بإعداد الطعام عبر تكية صغيرة، وحرصنا على توفير الفُرش والأغطية وملابس الأطفال في برد الشتاء القاسي. وحاولنا الحفاظ على شيء من كرامتهم، فأنشأنا مرافق للاستحمام وقضاء الحاجة، ونظمنا برامج دعم نفسي للأطفال تُخفف عنهم ما عانوه من رعب وصدمات.
في الأشهر السبعة الأولى، لم أكن نازحاً، بل كنت راعياً متفرغاً للنازحين في المنطقة. لكن بعد خروجنا من حي تلّ السلطان في رفح بأمر عسكري، أصبحتُ أنا وعائلتي نازحين في مواصي خان يونس. ورغم هذا التحول القاسي، لم تتراجع عزيمتي، وإن أثقلتني الظروف السياسية والإنسانية وسوء الطعام والمياه، ما تسبب لي بهزال وفقدان شهية وآلام دفعتني لزيارة المشافي الميدانية ومستشفى ناصر.
لم تكن حياة النزوح سهلة؛ فالقلق والكآبة والعجز تتسلل إلى الروح والجسد معاً. ولولا دعم بعض المؤسسات الدولية، وعون أهل الخير والأصدقاء، لما تمكنت من مواصلة واجبي الإغاثي تجاه النازحين في المخيم وما جاوره من عشرات الخيام. وفي كل ليلة كنا نستمع لقصص الناس: أمهات فقدن أبناءهن، ورجالاً نجوا وحدهم من تحت الركام، وأطفالاً يتهجّون الحياة من جديد على ضوء شمعة أو موقد نار.
عامان من الرباط في خدمة أهلنا؛ عامان من معايشة واقع لم يعرفه الفلسطينيون منذ النكبة. وما زلنا على العهد قائمين بما نستطيع، حتى نلقى الله وهو راضٍ عنا. إن خدمة الناس نعمة تبارك العمر، وتملأ القلب بالطمأنينة رغم كل ما يعصف حولنا. صبرنا على الألم، ورابطنا رغم فقدان الكثير من الأحبة؛ أقارب وزملاء وطلاباً قضوا شهداء ولم نتمكن من وداعهم، إذ بقي كثير منهم تحت الأنقاض بانتظار من ينتشلهم.
هكذا تمضي أيامنا بين خيمة وخدمة، بين فقدٍ وأمل؛ نداوي الجراح ونجبر الخواطر، ونتشبث بالإيمان بأن هذا الشعب —برغم محنته— قادر على النهوض من تحت الرماد.
مستقبل النازحين… رهانات “اليوم التالي” ومعركة البقاء
ومع دخول الحرب عامها الثالث، بدأ سؤال “اليوم التالي” يفرض نفسه بقوة:
هل سنعود إلى بيوتنا التي صارت ركاماً؟ هل ستسمح الترتيبات السياسية بإعادة الإعمار؟ أم أن الخيام ستتحول إلى واقع طويل الأمد كما حدث في نكبات سابقة؟
هذا السؤال لم يعد سياسياً فقط، بل وجودياً؛ يطال قدرة العائلات على إعادة بناء حياتها، وعلى حماية أطفال عاشوا الرعب والجوع والبرد. حتى الآن، لا نرى أكثر من مبادرات دولية متعثرة، وتجاذبات إقليمية حائرة، ونقاشات حول إدارة القطاع وترتيبات الأمن والإعمار. أما الحقيقة الملموسة فهي أن النازحين أصبحوا قلب معادلة “اليوم التالي”، وأن أي مشروع يتجاهل آلامهم لن يصمد.
ورغم هذا الغموض، فإن يقيناً واحداً يجمع النازحين جميعاً:
لن نغادر أرضنا، ولن نقبل بأي مشروع يهدف لتفريغ غزة من سكانها.
ستبقى هذه الخيام محطة عابرة مهما طال زمنها. سنعود لنُعمّر ما تهدّم، ونستعيد مدننا وحياتنا، فهذه الأرض وطنٌ نعيش فيه ونُدفن في ترابه حين يشاء الله.
إن معركتنا اليوم ليست فقط معركة بقاء، بل معركة رواية وإرادة؛ أن نُثبت للعالم أننا شعبٌ لا يُهزم، وأن النازحين—رغم الألم—هم طليعة من سيكتبون فصل العودة والإعمار والانبعاث من جديد.
