في الصور القديمة التي وصلتنا من القرن الماضي، يظهر أنطونيو غرامشيمرتديًا قبعته الصغيرة، قبعة لا تحمل ترفًا، بل تشي بعناد رجلٍ ظلّ عمره يقفإلى جانب الفقراء حتى وهو يسير على حافة المرض والسجن والانطفاء. قبعةغرامشي لم تكن مجرّد قطعة قماش، كانت إعلانًا صامتًا لانتمائه: انتماءللذين يمشون في الطرقات بلا حصانة، للذين يطرقون أبواب الحياة بأيدٍ متعبةوقلوب لا ترتجف.
اليوم، في يوم التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني، تبدو تلك القبعة وكأنهاتُقدّم لنا ظلًا معنويًا، ظلًا يغطّي خيام غزة التي نُصبت فوق ركام البيوت، كأنها استمرار لدرسٍ قديم في معنى البشر وحقّهم في الحياة والكرامة.
غرامشي الذي كتب عن الهيمنة كان يقصد الظلم حين يتنكر في هيئة نظام، وكان يقصد الفقراء حين قال إنهم لا يحتاجون شفقة، بل يحتاجون من يفسحلهم مكانًا في التاريخ. وفي غزة، لا توجد مجرّد “طبقة فقيرة” بالمعنىالكلاسيكي، بل شعب بأكمله حُوصر تحت سماء مفتوحة، يبحث عن قطعة خبز، وعن ماء، وعن معنى يبرّر استمرار القلب في الخفقان.
ربما لو وقف غرامشي اليوم على أطراف تلك المخيمات، لكان خلع قبعتهاحترامًا قبل أن يضعها فوق رأس طفلٍ مذعور يختبئ من ضجيج الطائرات. ولربما كان سيقول عبارته الشهيرة بطريقة أخرى:
“pesimism of the intellect, optimism of the will” وتعني (تشاؤمالعقل وتفاؤل الإرادة)، لكنّه اليوم سيصيغها على طريقة غزة: “العقل يرىالدمار… والإرادة تبني خبزًا فوق النار”.
في خيام النزوح، تجلس أمٌ أمام موقد صغير تحرس قدْرًا يغلي أكثر مما يغليقلبها. حولها يركض الأطفال بين خطوط الغبار، كأنهم يختبرون قدرة الإنسانعلى اختراع الفرح من مادة غير قابلة للاشتعال. هؤلاء البشر الذين يُراد لهمأن يكونوا هامشيين، يعيدون تعريف المركز: المركز هو الخيمة حين تصبح جامعةللعالم، حين يصبح الصباح درسًا في احتمال الحياة رغم انعدام الأبجدية.
غرامشي كان يعتقد أن الفقراء هم صانعو الثقافة الحقيقيون، لأن الثقافة ليستكتابًا أنيقًا بل قدرة جماعية على تحويل الألم إلى معنى. وفي غزة، يتجلّىذلك بوضوح مُشعّ: ثقافة الصمود ليست شعارًا، بل فعل يومي يضع فيه الناسالحجارة فوق الحجارة ليبنوا جدارًا صغيرًا يحمي طفولة متعبة من الريح.
قبعة غرامشي، لو وُجدت هنا، لكانت تُعلّق أمام باب خيمةٍ ما كرمز: رمز لمفكرٍ أدرك أن العدالة ليست فكرة فلسفية تزيّن الكتب، بل هي خبز، وماء، ومأوى، وهدوء ليل، وسماء لا تسقط فوق رؤوس الأطفال.
وربما لكانت القُبّعة، في هذا المكان بالذات، تذكيرًا بأن الدفاع عن الفقراءليس موقفًا سياسيًا فقط، بل فعل إيمان بقدرة الإنسان على أن يبقىإنسانًا.
في يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني، لا نحتاج إلى خطابات عاليةومتعالية، بل نحتاج إلى أن نصغي لنَفَس الناس داخل الخيام. نحتاج إلى أننفهم — كما فهم غرامشي — أن المأساة لا تُلغي الحق، وأن الضحية ليستصفحة تُطوى، بل شهادة تُفتح في وجه العالم.
وغزة، رغم كل ما بها، لا تطلب المستحيل؛ تطلب فقط ما كان غرامشي يطالب بهدومًا: أن يكون للفقراء حقّ في الشمس، وأن يكون للمظلومين مكانٌ في السطرالأول من التاريخ.
