بقلم : أحمد السبعاوي ..باحث في الشؤون الأمريكية

مقدمة: تناقض يؤسس لصراع وجودي

يُجسِّد الشعار السياسي رؤيةً استراتيجيةً وبرنامج عمل، لكنه يصبح إشكالياً عندما يتحول إلى مجرد شعار جوفاء. في قلب المشهد السياسي الأمريكي اليوم، يطفو على السطح تناقضٌ صارخ بين شعار “أمريكا أولاً” الذي هيمن على خطاب اليمين المحافظ، والواقع العملي للسياسة الخارجية الأمريكية الداعمة لإسرائيل بشكلٍ غير مشروط. هذا التناقض لم يعد نظرياً، بل تحول إلى صراع ملموس يهدد بوضع حدٍّ لمرحلة تاريخية من الهيمنة الفكرية والسياسية للوبي الإسرائيلي داخل أروقة واشنطن.

الفصل الأول: جذور التناقض بين الشعار والواقع

يدفع أنصار إسرائيل داخل الحزب الجمهوري، بدعم من مجموعات ضغط قوية مثل “لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية” (AIPAC) ومجموعات تمويلية نافذة، بخطاب يدمج الأمن الإسرائيلي بالأمن القومي الأمريكي. لكن هذا الموقف يصطدم بجوهر شعار “أمريكا أولاً” عند أول اختبار حقيقي، خاصة عندما يُستخدم هذا الخطاب لقمع أيّ حوار نقدي حول التكلفة الباهظة لهذا التحالف.

فالدعم الأمريكي الثابت، الذي يتجلى في معونات عسكرية واقتصادية هائلة تتجاوز 3.8 مليار دولار سنوياً، يُمكّن إسرائيل من تعزيز تفوّقها العسكري ومواصلة سياساتها الاستيطانية، بينما تُهمَّش الأولويات الداخلية الأمريكية مثل البنى التحتية المتدهورة وأزمة الديون الوطنية.

الفصل الثاني: استراتيجية الإلهاء والصراعات الثقافية

لفهم استمرار هذا التناقض، يجب ملاحظة كيف تُدار المعركة السياسية داخل اليمين الأمريكي. غالباً ما تُحصر النقاشات العامة في قضايا داخلية مثيرة للانقسام الثقافي مثل الهجرة وحقوق المثليين والإجهاض. هذه القضايا، رغم أهميتها، تشغل الحزب والناخبين بمعارك جانبية، بينما يبقى “الثالث المحرم” – أي النقاش العلني حول كُلفة التحالف مع إسرائيل – خارج دائرة الضوء.

وهكذا، تنجح المؤسسة التقليدية في تحويل الانتباه عن سؤال مركزي: لماذا تتحمل الولايات المتحدة، التي يعاني 60% من مواطنيها من وضع مالي متدهور، عبء تمويل تفوق عسكري لدولة أخرى، بينما تعلن إداراتها المتعاقبة شعار “أمريكا أولاً”؟

الفصل الثالث: كُلفة الحروب وتفكيك أسطورة المصير المشترك

إن الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، من العراق إلى أفغانستان، وإن تعددت مبرراتها، فإن الرواية الإسرائيلية للأمن الإقليمي كانت حاضرة بقوة في خطابها التبريري. وقد كلّفت هذه الحروب الخزانة الأمريكية ما يزيد عن 6 تريليونات دولار، بينما لم تحقق أياً من أهدافها المعلنة في تعزيز الأمن أو الديمقراطية.

لقد أدرك تيار “أمريكا أولاً”، بقيادة شخصيات مثل دونالد ترامب ونجوم صاعدين مثل جي.دي. فانس، أن الإدارات الأمريكية – جمهورية وديمقراطية – تتصرف في الملف الإسرائيلي كما لو كانت مقيدة بقرار خارجي. هذا الاكتشاف بلغ ذروته خلال حرب غزة الأخيرة، حيث وجدوا أن إدارة بايدن تستمر في دفع فاتورة الحرب وتزويد إسرائيل بالذخائر، بل وتجُرّ البلاد إلى حافة مواجهة مع إيران تخدم في جوهرها الأجندة الإسرائيلية وليس المصلحة الأمريكية.

الفصل الرابع: معركة الوعي.. من القمع إلى المواجهة

لم يعد هذا الصدام مقتصراً على أروقة الكونغرس، بل امتد إلى قلب الساحة الإعلامية. فزيارة بنيامين نتنياهو الأخيرة إلى واشنطن، وتدخله الصارخ في الشأن الداخلي الأمريكي عبر مهاجمة شخصيات إعلامية مؤثرة مثل تكر كارلسون وكانداس أوينز ونيك فيونت، كشفت النقاب عن محاولة منهجية لقمع أي صوت نقدي.

لكن الاستراتيجية انعكست ضد مصمميها. فالهجوم الذي قاده إعلاميون مؤثرون مثل مارك ليفين ضد هؤلاء النقاد، واتهامهم بـ “التشبه بالنازية”، لم يُسكتهم بل زادهم جرأة، وكشف للجمهور الأمريكي، وخاصة الشباب، حجم المبالغة في خطاب “المصير المشترك”. لقد نجح هؤلاء في تفكيك الأسطورة الفكرية التي صاغها “المحافظون الجدد” مثل صموئيل هنتنغتون وبول وولفوفيتز، والذين روّجوا لصراع حضاري مزعوم لتبرير تحويل أمريكا إلى حارس لإسرائيل.

الفصل الخامس: انتخابات 2024.. المعركة الفاصلة

تُشكِّل الانتخابات النصفية المقبلة في نوفمبر 2024 محكاً حقيقياً لهذا الصراع. فهي ليست مجرد منافسة بين جمهوريين وديمقراطيين، بل هي استفتاء داخلي داخل المعسكر اليميني نفسه بين اتجاهين:

1. الجناح التقليدي: الممثل برموز مثل تيد كروز وليندسي غراهام، المرتبطين عضوياً باللوبي التقليدي وخطاب “الصهيونية المسيحية”.
2. الجناح القومي الجديد: الممثل بشخصيات مثل جي.دي. فانس ومارجوري تايلور غرين، الذي يرى أن الولاء يجب أن يكون لبلاده أولاً، ويدعو إلى إعادة تقييم جذرية للتحالف غير المشروط مع إسرائيل.

خاتمة: الطلاق البارد والبحث عن هوية جديدة

الجيل الجديد من المحافظين الأمريكيين لم يعد يصدق أن مصير أمريكا مرتبط بمصير إسرائيل. إنهم يطالبون بـ “طلاق” فكري وسياسي عن رواية القرن العشرين، ويرون في إسرائيل دولة عادية بعيدة، لا ينبغي أن تحظى بأولوية على حساب المواطن الأمريكي. إنهم يرفضون تحويل بلادهم إلى ماكينة تمويل وعسكرة لأجندة خارجية.

نتائج نوفمبر ستحدد ما إذا كان هذا التيار الصاعد هو مستقبل الحزب الجمهوري، أم أن هيمنة اللوبي القديم ستستمر. بغض النظر عن النتيجة، فإن الصندوق الأسود للعلاقة الأمريكية الإسرائيلية قد فُتح، ولم يعد من الممكن غلقه. المعركة الحقيقية لم تعد حول من يدعم إسرائيل أكثر، بل حول من يجرؤ على وضع أمريكا أولاً حقاً.

شاركها.