بدأنا هذه السلسلة بتحليل صعود بنيامين نتنياهو في حقل السياسة الإسرائيلية. وإذا وضعنا في الاعتبار طلب العفو الرسمي، والمفاجئ، الذي قدّمه إلى الرئيس الإسرائيلي، قبل يومين، فلا يبدو من السابق لأوانه القول، إن ملامح خروجه من هذا الحقل تلوح في الأفق. الطلب مفاجئ لأنه رفض الفكرة في وقت مضى، وأصر على مدار خمس سنوات، هي عمر المحاكمة بتهم تتعلّق بالرشوة والفساد وسوء استخدام الوظيفة، على أن التهم كيدية، وأن مصدرها تصفية حسابات سياسية لا غير.
ومع ذلك، من الواضح أن أحداً لا يطلب العفو طالما كانت البراءة مضمونة. ومن الواضح، أيضاً، أن تصفية الحسابات، حتى وإن كانت كيدية، لن تتمكن من البقاء في أروقة المحاكم على مدار سنوات لو كانت بلا شاهد ودليل.
ومع هذا في البال، لا ينبغي تجاهل طلب العفو عن نتنياهو الذي قدمه دونالد ترامب إلى الرئيس الإسرائيلي، وأعاد التذكير به في خطاب أمام الكنيست. من المُستبعد أن يكون الطلب من بنات أفكار ترامب (إذا كان ثمة من شيء كهذا) فالتفكير في هذا الموضوع يعني أمرين:
أن تكون لدى صاحب الطلب معرفة كافية بحقل السياسة الإسرائيلية من ناحية، وما ألحق الصراع بين نتنياهو والنظام القضائي الإسرائيلي من ضرر بالحقل نفسه من ناحية ثانية. وهذه حسابات معقّدة بالنسبة لترامب. لذا، وإذا لم نسقط من الحسبان أن يكون نتنياهو نفسه قد استعان بترامب، بعدما أدرك استحالة البراءة، فمن المرجح أن تكون أوساط إسرائيلية وأميركية، في دائرة ترامب الضيقة، هي التي طلبت منه التدخل للعفو عن نتنياهو.
ولكن لماذا التدخل لإنقاذ نتنياهو؟ لا تبدو مفردة «الإنقاذ» صحيحة تماماً في سياق كهذا. والأقرب إلى الواقع «إنقاذ» حقل السياسة، والنظام الإسرائيلي نفسه، من التداعيات الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية للانقلاب القضائي، الذي يقوده نتنياهو وشركاه للحد من دور المحكمة العليا، والرقابة القضائية على السلطة التنفيذية. يسعى نتنياهو للإفلات من السجن، ويسعى شركاه في معسكر اليمين القومي ـ الديني لتعزيز الهوية اليهودية للدولة، على طريق فرض الشريعة اليهودية نفسها.
وفي سياق كهذا، لا معنى لتحليل ما طرأ على حقل السياسة الإسرائيلية من تحوّلات على مدار خمس سنوات، وخيارات إسرائيل السياسية والعسكرية منذ اندلاع الحرب على غزة ما لم نضع ما تقدّم في الحسبان. وفي صميم كل ما تقدّم ما يدل على انقسام حاد في بنية المجتمع الإسرائيلي، الذي صار على حافة الحرب الأهلية. وفي هذه النقطة، بالذات، ما يفسّر كلام نتنياهو عن ضرورة العمل على مداواة وتعافي الجراح، في رسالة المطالبة بالعفو.
ستكون لدينا مناسبات كثيرة لتحليل الآثار الكارثية، التي ألحقتها خيارات نتنياهو وشركاه العسكرية والسياسية بالدولة والمجتمع الإسرائيليين منذ اندلاع حرب الإبادة قبل عامين. فكل ما يعنينا، الآن، يتمثل في الانقسامات الاجتماعية والأيديولوجية الحادة، التي نجمت عن محاولات الانقلاب القضائي، وعن إعفاء المتدينين من الخدمة العسكرية، وتعزيز النزعات الفاشية المعادية للنظام الديمقراطي، حتى من طراز الديمقراطية الإثنية في إسرائيل.
هذه الانقسامات مقلقة بشكل خاص لقطاع من الإسرائيليين لا يمثل القاعدة الانتخابية لنتنياهو واليمين. وعلى الرغم من حقيقة أن هذا القطاع لا يختلف مع الكثير من خيارات نتنياهو وشركاه العسكرية والسياسية منذ اندلاع الحرب، والموقف من الفلسطينيين بشكل خاص، إلا أنه مطلع ـ نتيجة مستواه التعليمي الأعلى، وعلاقاته القوية بمجتمعات غربية مختلفة، علاوة على ثقافته الغربية ـ على تدهور صورة إسرائيل في بلدان غربية مختلفة، بما فيها الولايات المتحدة، نتيجة ما يشهد حقل السياسة الإسرائيلية من انقسامات أيديولوجية وسياسية، وما تتفشى فيه من نزعات فاشية وعنصرية. وهي مقلقة، أيضاً، في نظر شرائح واسعة من المتعاطفين مع إسرائيل في الديمقراطيات الغربية.
لذا، لا ينبغي استبعاد حسابات المتعاطفين مع إسرائيل في الغرب، وفي الولايات المتحدة بشكل خاص، معطوفة على ضغوط إسرائيلية داخلية من جانب شرائح ذات نفوذ واسع في الجيش، والصناعات العسكرية، وقطاع المال والأعمال، من كل تحليل محتمل لتمكين نتنياهو من الحصول على البراءة، وبالتالي تحرير المجتمع الإسرائيلي، والنظام نفسه من أزمة داخلية عميقة تكاد تودي به.
وتبقى في هذه السياق أسئلة لن يطول الانتظار قبل الحصول على إجاباتها المحتملة. هل سيتمكن الرئيس الإسرائيلي من العفو عن نتنياهو (وهذا من صلاحياته) دون إغضاب، أو إحراج، السلطات القضائية؟ وهل ثمة مسوّغات كافية للعفو عن المذكور دون الحصول على مقابل أهم من الكلام عن التعافي، وتوحيد الصفوف، ومجابهة التحديات، ومداواة الجراح، خاصة وأن العفو نفسه قد يخلق جراحاً جديدة؟
وإذا كان العفو نتيجة مقايضة من نوع ما: العفو مقابل خروج نتنياهو من السياسة، أو الاعتراف بالذنب، كما طالب بعض الساسة في المعارضة الإسرائيلية؟ فهل المقايضة ممكنة؟ وما هي الفترة الزمنية، التي سيحتاجها الرئيس الإسرائيلي قبل البت في هذا الأمر؟
هذه أسئلة مفتوحة، بطبيعة الحال. والأقرب إلى الذهن، بقدر ما أرى، أن حظوظ نتنياهو، تبدو وكأنها أوشكت على النفاد. مشهد النهاية يرتسم في الأفق، حتى وإن غابت عنه بعض التفاصيل. فاصل ونواصل.
