كتب : محمود الهواري
06:12 م
22/12/2025
في عام 2018 تصدرت الحوتة القاتلة المهددة بالانقراض “تاهليكوا” عناوين الأخبار حول العالم، بعدما وثقت عدسات المصورين مشهدا استثنائيا لها وهي تسبح حاملة مولودها النافق فوق رأسها لأكثر من ثلاثة أسابيع في مياه شمال غرب المحيط الهادئ، في واقعة تحولت إلى رمز عالمي لما بدا وكأنه حزن حيواني صامت.
وبحسب تقرير موقع discovermagazine، أعاد هذا السلوك النادر فتح نقاش علمي واسع حول الطريقة التي تتعامل بها الحيوانات الاجتماعية مع الموت، وما إذا كانت هذه الكائنات تمر بتجربة عاطفية قريبة مما يعرفه البشر بالحزن، أم أن تفسير هذه التصرفات يخضع لإسقاط مشاعر إنسانية على عالم الحيوان.
الحزن في عالم الكائنات الاجتماعية
تعد الحيتانيات، وعلى رأسها الحيتان القاتلة، من أكثر الكائنات البحرية تعقيدا من الناحية الاجتماعية والمعرفية، إذ تعيش ضمن مجموعات مترابطة، وتعلم صغارها أساليب الصيد، وتمتلك ثقافات ولهجات مميزة داخل كل مجموعة.
ويرى باحثون أن فقدان أحد أفراد العائلة قد يؤدي إلى تغيرات واضحة في سلوك هذه الكائنات، وهو ما ظهر جليا في حالة تاهليكوا.
تفسير علمي للسلوكيات المرتبطة بالموت
يقول ديفيد ستالمان، أستاذ علم النفس بجامعة ماري واشنطن والمتخصص في سلوك الحيوان، إن العديد من الأنواع تظهر أنماطا سلوكية ثابتة عند مواجهة الموت، لكنها لا ترقى بالضرورة إلى ما يمكن تسميته “جنازات” بالمعنى البشري.
ويشير إلى أن هذه السلوكيات قد تكون امتدادا طبيعيا للتفاعلات الاجتماعية، حيث يعتمد بقاء الفرد ورفاهيته على المجموعة المحيطة به.
كيف يغير الموت ديناميكيات القطيع
يوضح ستالمان أن الحيوانات الاجتماعية تطور سلوكيات معقدة مرتبطة بالموت لأن الفرد النافق لم يعد يستجيب لتفاعلات المجموعة أو يؤدي وظائفه المعتادة.
هذا الغياب المفاجئ يفرض على بقية الأفراد إعادة ضبط سلوكهم، سواء من خلال الاقتراب من الجثة أو مراقبتها أو تغيير نمط التفاعل داخل المجموعة.
الأفيال وزيارة موتاها
تعد الأفيال من أكثر الكائنات التي حظيت بدراسات معمقة في ما يُعرف بعلم “الموت المقارن”، إذ لوحظ أنها تعود مرارا إلى جثث أفرادها، وتلمسها وتفحصها، كما تظهر سلوكيات اجتماعية داعمة تجاه الأفراد الأحياء.
وفي حالات موثقة، قامت أفيال بحمل صغارها النافقة ودفنها في مواقع محددة، وسط أصوات عالية تصدرها القطعان.
الحيتانيات والرعاية الأمومية المطولة
تظهر الدلافين والحيتان سلوكا مشابها، إذ شوهدت في أكثر من مناسبة وهي تحمل صغارها النافقة لساعات أو أيام. ويصف علماء الأحياء البحرية هذا التصرف بـ”الرعاية الأمومية المطولة”، وهو سلوك يعكس ارتباطا عميقا بين الأم وصغيرها حتى بعد الموت، إذ عادت تاهليكوا نفسها لتكرار هذا السلوك في ديسمبر 2024 مع عجل نافق آخر.
الشمبانزي وحداد صامت
في عالم الرئيسيات، وثقت مشاهد مؤثرة لشمبانزي يلتزمون بصمت غير معتاد عقب وفاة أحد أفراد مجموعتهم. ففي حادثة تعود إلى عام 2008، تجمع عدد من الشمبانزي حول زعيمتهم الراحلة في مركز إنقاذ بالكاميرون، وأظهروا سلوكيات توحي بالتأثر والارتباط العاطفي.
الغربان والفئران… سلوكيات مختلفة للغائبين
لا يقتصر التفاعل مع الموت على الثدييات الكبيرة، إذ تشير دراسات إلى أن طيور الغرابيات تتجمع حول موتاها وتصدر أصواتًا عالية، بينما لوحظ أن الفئران تقوم بدفن جثث رفاقها بعد مرور فترة زمنية محددة، في سلوك قد يكون مرتبطًا بالحفاظ على صحة المجموعة أكثر من كونه تعبيرًا عاطفيًا.
هل تحزن الحيوانات فعلا؟
يظل السؤال مفتوحا حول ما إذا كانت هذه السلوكيات تعكس حزنا حقيقيًا أم مجرد استجابات عملية لفقدان فرد من المجموعة.
ويرى ستالمان أن الحزن، حتى لدى البشر، يرتبط بتوقف أنماط سلوكية كانت موجهة لشخص لم يعد موجودا، ولا يوجد ما يمنع حدوث الأمر ذاته لدى الحيوانات الاجتماعية غير البشرية.
وبحسب ستالمان قد لا تحمل تصرفات الحيوانات المعنى ذاته الذي نفهمه نحن كبشر، لكنها تكشف بلا شك عن عالم داخلي أكثر تعقيدا مما كنا نتصور، وعن روابط تتجاوز مجرد البقاء إلى ما يشبه المشاركة في الفقد.
