خلصنا إلى أن ما صُنّف في خانة الإرهاب، قبل ثلاثين عاماً، صار الآن في متن التيار الرئيس، وسدة الحكم، وصناعة القرار، في إسرائيل. وهذا وثيق الصلة بصعود نتنياهو في الحقل السياسي، علاوة على تمثيله للقسط الأكبر من تركته السياسية. ومع ذلك، ينبغي التحذير من خطأ النظر إلى ما طرأ على بنية الدولة والمجتمع من تحوّلات بوصفها ترجمة حصرية لخياراته، وطموحاته، وتجسيداً لمهاراته أو انحرافاته الشخصية.
والصحيح أننا يمكن أن نرى فيه هو ترجمة للتحوّلات وليس صانعاً لها. التمييز ضروري ومطلوب، هنا، ففي وقت، ربما لن يطول انتظاره، سيسعى الإسرائيليون للخروج من الدرك الأخلاقي والسياسي، الذي أوقعتهم فيه حرب الإبادة، بإلقاء المسؤولية على عاتق المذكور وشركائه. هذا المسعى مريح للكثيرين بقدر ما يُعفي الدولة والمجتمع من المسؤولية، ويحصرها في أفراد. وهي لعبة مألوفة في مناطق مختلفة من العالم للتخلص من الضرائب الباهظة لكوارث وجرائم من صنع الإنسان.
ومع هذا في البال، يمكن الكلام بقدر أكبر من الطمأنينة، عن التركة السياسية لنتنياهو بوصفها خلاصة لتحوّلات بنيوية وموضوعية تتجاوزه كفرد. وهذا يصدق على شركائه في الحقل السياسي، بطبيعة الحال. وأهم ما في هذه التركة أنه قَلبَ الرواية الإسرائيلية التقليدية عن حروب الدولة، وحاجاتها الأمنية، وكوابيسها الوجودية، رأساً على عقب، بطريقة غير مسبوقة، ولا رجعة عنها.
ما يكتسب صفة الرواية، ويقوم مقامها بصفة عامة، لا يتخلّق دفعة واحدة، ولا ينشأ من مصدر واحد، بل ينجم عن تفاعل عناصر مختلفة في لحظات تاريخية فاصلة. ثمة أكثر من رواية إسرائيلية. ولنقل إن في قلب الرواية التقليدية عن الصراع الفلسطيني والعربي ـ الإسرائيلي أن إسرائيل، بعد قيامها، هي داود الصغير، الذي يهدده «عرب» و»مسلمون» برابرة بالفناء لأنهم لا يعيشون في ديمقراطيات، ويكرهون اليهود. لذا، حروبها دفاعية، وحاجاتها مشروعة، وكوابيسها مُبررة.
وبما أن الروايات لا تتخلّق دفعة واحدة، فإن ما يطرأ عليها من تغيّرات يحدث بطريقة تدريجية، أيضاً. لذا، فقدت رواية داود الصغير الكثير من قدرتها على الإقناع بطريقة تدريجية وموازية لما طرأ على معاني الدفاع، والحاجات الأمنية، والكوابيس، من تعديلات ودلالات جديدة، بعد وصولها إلى الذروة في حرب العام 1967.
وما يعنينا، في سياق كهذا، أن حروب القوّة الإسرائيلية الصاعدة في الشرق الأوسط، ومحاولات الهيمنة على بلاد الشام، على مدار العامين الماضيين، لم تخرج رواية داود الصغير من التداول وحسب، بل قلبتها رأسها على عقب. تبدّلت الأدوار، صارت إسرائيل هي غولياث، وصار الفلسطينيون هم داود الصغير. ولم تعد كراهية اليهود، والحروب الدفاعية، والحاجات الأمنية، والكوابيس، عملة صالحة للتداول.
وهذا، على أهميته، ينبغي أن يأخذنا إلى مكان آخر، لم ينل، حتى الآن، ما يستحق من عناية وتفكير وتدبير. المقصود أن انقلاب الرواية التقليدية خلق فراغاً لم تسده تمثيلات جنينية لرواية إسرائيلية بديلة بعد. هم في مرحلة انتقالية:
ليس في وسعهم ترميم الرواية التقليدية، ولا إنشاء رواية بديلة بوجه سافر لغولياث. وكل ما يلوح في الأفق، الآن، يتجلى في صورة عقارات، وتكنولوجيا، واستثمارات، وترتيبات أمنية، على قاعدة توسيع وتعميم الحلف الإبراهيمي، بل وذهب البعض، بمن فيهم نتنياهو والمحافظون الجدد، إلى حد الكلام عن «سلام» على غرار السلام الذي فرضه الأميركيون في أوروبا بعد هزيمة النازية في الحرب العالمية الثانية. لا بأس.
ومع ذلك، هل تصلح العقارات والتكنولوجيا والترتيبات الأمنية، والمحاكاة الوهمية لأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، لإنشاء رواية جديدة في رقعة من الأرض «نعثر فيها على نبي كلما قلبنا حجراً» على رأي طيب الذكر محمود درويش؟ هذا السؤال ليس مفتوحاً، وجوابه هو النفي، بالتأكيد.
على أي حال، إذا قلبنا حجر رواية داود الصغير، التي أخرجتها حروب الصعود الإقليمي من التداول، سنعثر تحتها على شيء من ألاعيب التاريخ، الذي لا يكف عن المزاح الثقيل. فقد حرص الفلسطينيون، في زمن صعود حركتهم الوطنية، على تصوير الصراع في فلسطين وعليها بمفاهيم ومفردات الصراع ضد الكولونيالية.
وما حدث أن حروب الصعود الإقليمي، ومحاولات الهيمنة الإسرائيلية على بلاد الشام، أعادت الاعتبار (من حيث لا يدري نتنياهو ولا يحتسب) إلى مكوّن رئيس في الرواية الفلسطينية، أي التفكير في الصراع وتشخيصه بمفاهيم ومفردات الكولونيالية والتحرر القومي، بعدما ضمر وجودها في الرواية المعنية بعد صعود الإسلاميين، وإصابة فصائل الحركة الوطنية بالسكتة الدماغية منذ أواسط التسعينيات.
لاح مشروع تهجير الفلسطينيين من غزة، في الأفق منذ الأيام الأولى للحرب، وكان فيه، ضمن أمور أُخرى، ما يشبه عودة المسكوت عنه. الفكرة التي كانت دائماً على جدول الأعمال، ولكن سنوات أوسلو أخرجتها، بصورة مؤقتة، من دائرة الاهتمام والتداول. يتمثل المسكوت عنه في حقيقة أن الصراع مع السكان الأصليين على الأرض والموارد، وأن التخلّص منهم في بنية المشروع الكولونيالي نفسه كما برهنت التجربة التاريخية، والحرب التي لم تتوقف بعد.
يمثل كل ما تقدّم نتائج وخلاصات لانهيار رواية إسرائيل التقليدية. ولكل ما تقدّم تداعيات يصعب حصرها، علاوة على ضرائب أخلاقية وسياسية باهظة. ولا يبدو، بقدر ما أرى، أن الدولة والمجتمع يملكان الموارد والقوة لتداركها وتسديدها. وهذا موضوع آخر.
