أعلنت مفوضية الإعلام في حركة فتح – الأقاليم الجنوبية بوستر الانطلاقة الحادية والستين، فجاء مختلفاً عمّا اعتدناه منذ سنوات طويلة. ليس لأنه جميل بصرياً فحسب، بل لأنه نادر الصدق، يمسّ الواقع، ويخاطب القلوب والتطلعات دون ادّعاء. منذ زمن لم نرَ إعلاناً حركياً لفتح يلامس وجدان الناس كما فعل هذا الإصدار، الذي بدا – عند التمعّن فيه – عملاً إبداعياً ذا دلالات وطنية عميقة، منبثقة من وجع غزة لا من هوامش الخطاب.
في هذا الشعار، لا نقرأ صورة دعائية تقليدية، بل بياناًنفسياً وسياسياً خرج متأخراً من تحت الركام. طائر الفينيقليس زينة بصرية، بل اعترافاً ضمنياً بأن ما جرى في غزة لم يكن “جولة” ولا “عدواناً عابراً”، بل محرقة سياسية ونفسية واجتماعية، وأن ما بعدها لا يمكن قراءته بالأدوات القديمة نفسها.
أولًا: القراءة النفسية – من الصدمة إلى إعادة التشكّل
بعد عامين من الإبادة، لم يعد ممكناً الحديث بلغة الانتصارات السريعة أو الشعارات الصلبة. الفينيق، الخارج من الرماد، هو رمز الناجي لا المنتصر. إنه يعكس تحوّلاًنفسياً عميقاً: انتقالاً من الصمود الصامت إلى الاعتراف بالألم، ومن إنكار الخسارة إلى تحويلها إلى معنى.
غزة هنا لا تُقدَّم كضحية فحسب، بل ككائن جريح أعاد تعريف ذاته. كأن الشعار يقول: لم نعد كما كنا، لكننا لم ننتهِ. وهذا بحد ذاته تطوّر نادر في خطاب سياسي طالما اعتاد الدبلوماسية والإنكار.
ثانيًا: القراءة السياسية – مراجعة بلا إعلان
للمرة الأولى، تغيب صورة البندقية المتقدّمة، وتحضر الرمزية الوجودية. لا يعني هذا التخلي عن الفعل السياسي، بل الإقرار بأنها البندقية مرحلة كاملة احترقت، وأن إعادة البناء لم تعد مسألة إعمار فحسب، بل إعادة تعريف للدور واللغة والشرعية.
وضع الفينيق فوق الرقم (61) ليس تفصيلاً عابراً؛ إنه اعتراف بأن الحركة، مثل غزة، تقدّمت في العمر السياسي، وأن الاستمرار لم يعد ممكناً إلا عبر التجدد لا التكرار. الشعار لا يقول: “ننتصر”، بل يهمس: “نعود… ولكن بشكل آخر”، وهذا أخطر وأكثر صدقاً سياسياً.
ثالثًا: غزة في الشعار – من الهامش إلى المركز
غزة هنا ليست خلفية للصورة، بل مصدرها، الرماد الذي ينهض منه الفينيق هو رماد غزة، لا رماد الحركة وحدها. وفي ذلك إشارة سياسية بالغة الأهمية: غزة لم تعد عبئاً أو ملفاً إنسانياً، بل مختبر الرؤية الجديدة، ومكان إعادة إنتاج المعنى الوطني.
كأن الشعار يلمّح: من لم يمرّ عبر نار غزة، لن يفهم المرحلة القادمة.
رابعًا: البعد العاطفي – خطاب للمنهكين لا للمنصّات
هذا الشعار لا يخاطب الجماهير الصاخبة، بل المنهكين، الثكالى، الناجين، ومن فقدوا اللغة. هو أقل صراخاً، وأكثر حزناً. أقل ادّعاءً، وأكثر تواضعاً أمام الموت. ولهذا كان مؤثراً؛ لأنه لا يعد بشيء كبير، بل يقول فقط: ما زلنا هنا… وسنحاول.
خلاصة
ما نراه في هذا البوستر ليس مجرد تصميم، بل رؤية وإيمان جديدان خرجا من قلب غزة، لا من مكاتب السياسة. إيمان جديد، مُتّعب، لكنه صادق. إيمان لا يقوم على استعراض القوة، بل على القدرة على النهوض بعد الانكسار، وهذه حركة فتح التي تؤمن بها الجماهير.
وطائر الفينيق، في هذا السياق، ليس رمزاً أسطورياً، بل غزة نفسها… حين قررت، بعد كل هذا الموت، أن تحيا؛ لا لتنسى، بل لتبني وهي تتذكّر.
