من طفلٍ وُلد لاجئًا في خيمة النكبة الأولى، إلى شيخٍ عاد إلى الخيمة ذاتها في زمن حرب الإبادة، تمتد هذه الشهادة على أكثر من سبعين عامًا من الغربة والمنفى، والبحث الدائم عن وطنٍ لم يغب عن القلب يومًا. بين طفولتي في النكبة الأولى وشيخوختي في النكبة الثانية، عشت مشوارًا طويلًا من اللجوء والتنقّل، من مخيم الشابورة في رفح إلى خيام المواصي في خانيونس، مرورًا بمنافي بعيدة حملتني إلى أكثر من ثلاثين دولة عربية وإسلامية وغربية، للدراسة والعمل والبحث والكتابة، دون أن تُسقط الغربة يومًا حق العودة إلى المكان، ولا الواجب تجاهه.
وُلدت في مخيمٍ علّمني باكرًا معنى الحرمان، ورأيت والديّ يكدحان ليل نهار ليصنعا لنا حياة تليق بالكرامة الإنسانية، وسط فقرٍ مدقع وواقعٍ قاسٍ. كنا أطفال المخيم نعيش بين الشقاوة والبساطة، نحاول إثبات ذواتنا عبر التعليم، علّنا نكسب رضا الأهل ودعاءهم، ونفتح نافذة صغيرة على مستقبل مختلف.
في طفولتي الأولى، شهدت العدوان الثلاثي وأنا في السادسة من عمري. رأيت الناس يفرّون من بيوتهم هلعًا نحو الشاطئ، خوفًا من القصف والقتل. ضعت بين الجموع، وكان بكائي سبب نجاتي حين احتضنتني عائلة فلسطينية غريبة. في ذلك المشهد المبكر، تعلّمت أن هذا الشعب، رغم الجراح، لا يفقد إنسانيته. وكانت تلك أول مرة أرى فيها الجنود الإسرائيليين وهم يقتحمون البيوت، ويزرعون الخوف في العيون.
كبرتُ، مثل كثيرين من أبناء جيلي، ناصريَّ الهوى، مأخوذين بسحر الخطاب ومخيّلة النصر القريب. وعندما وقعت حرب 1967، عشنا أيامًا من النشوة الزائفة، قبل أن نصحو على الحقيقة الصادمة: هزيمة قاسية، واحتلال جديد، وانكسار عميق في الوعي الجمعي. بعد النكسة، بدأت الأسئلة الكبرى: كيف هُزمنا؟ ولماذا؟ ومع غياب الإجابات السياسية المقنعة، صعد الخطاب الديني ليملأ الفراغ، ويعيد تشكيل وعي جيلٍ كامل في السبعينيات، فيما عُرف لاحقًا بالصحوة الإسلامية.
في تلك المرحلة، دخل الإسلاميون بقوة إلى المشهد الفلسطيني، وبدأ التنافس، بل الصدام أحيانًا، مع التيارات الوطنية والعلمانية التي سبقتنا في العمل النضالي. لم يكن التعايش سهلًا، رغم وحدة الهدف، وكانت الانقسامات الفكرية والسياسية تنمو في العمق، وتترك أثرها لاحقًا على المشروع الوطني.
بعد تخرّجي من الجامعة في مصر عام 1979، عدت إلى غزة مؤمنًا بأن فلسطين هي القضية المركزية، ثم سافرت للعمل في الإمارات، قبل أن أحصل على منحة دراسية إلى الولايات المتحدة. هناك، في الجامعات الأمريكية، اكتمل نضجي السياسي، وانخرطت في العمل الطلابي، ثم الإعلامي والسياسي. فتحت لي واشنطن أبوابها: الكونغرس، ومراكز الدراسات، والنقاش المباشر مع صنّاع القرار. كانت تلك المرحلة مدرسة كبرى في فهم العالم، والسياسة، وحدود القوة، وكيف تُدار المصالح بعيدًا عن الشعارات.
في منتصف عام 2004، انتقلت إلى الجزائر، حيث عشت تجربة غنية مع نخب الثورة والفكر الإسلامي. كانت الجزائر وطنًا ثانيًا للفلسطينيين، وفضاءً رحبًا للتأمل في معنى التحرر، وتجربة الكفاح الوطني، والمصالحة مع التاريخ. هناك، أدركت أن الشعوب قد تتأخر، لكنها لا تموت ما دامت تمتلك سرديتها الجامعة.
بعد فوز حركة حماس في انتخابات عام 2006، عدت إلى غزة للعمل في الحكومة، في لحظة ظنّ كثيرون أنها بداية تحوّل تاريخي. كانت سنوات الحكم صعبة ومليئة بالخلافات، داخليًا وخارجيًا. حاولت، من موقعي، الدفاع عن تجربة الحكومة، وتقديم خطاب سياسي أكثر انفتاحًا، لكنني وُصفت أحيانًا بأنني “أغرّد خارج السرب”. ومع الانقسام الفلسطيني، وتكرار الحروب، كان القلق يتعاظم: هل نملك حقًا مشروعًا وطنيًا قابلًا للحياة؟ أم أننا نُستنزف تدريجيًا في صراع غير متكافئ؟
قبل حرب الإبادة على قطاع غزة بشهر واحد، كنت في جنوب أفريقيا، أشارك في ورشة عمل بالعاصمة بريتوريا حول تجربة نضال السود ضد نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد). استمعت هناك إلى شهادات حيّة لمناضلين سود وبيض شاركوا في صناعة الانتقال من نظام عنصري قاسٍ إلى دولة ديمقراطية قائمة على الشراكة والمصالحة. أعادت تلك التجربة طرح سؤالٍ مؤلم في ذهني: لماذا ننجح في فهم دروس الآخرين، ونعجز عن حماية ذواتنا من التآكل الداخلي؟
قبل اندلاع الحرب بيوم واحد فقط، كنت في مصر. ومع الساعات الأولى للسابع من أكتوبر، أدركت أن ما جرى ليس حدثًا عابرًا، بل زلزال سيعيد الفلسطيني إلى أصل الحكاية. كان قراري بالعودة السريعة إلى غزة في اليوم التالي نابعًا من واجبٍ وطنيٍّ ودينيٍّ وأخلاقيٍّ لا يقبل التردّد. وصلت مساء ذلك اليوم، فيما كانت آلة القتل الإسرائيلية تحصد آلاف الأرواح بلا رحمة، وتفتح فصلًا جديدًا من الإبادة.
شاركت في استقبال النازحين؛ فتحنا بيوتنا، ونصبنا الخيام، وحاولنا بما توفر أن نحفظ للناس شيئًا من كرامتهم. ثم جاء الدور علينا، فصرنا نازحين في مواصي خانيونس. تركنا بيوتنا، ولم نحمل معنا إلا القليل، وعدنا إلى الخيمة… بعد عمرٍ كامل.
وهكذا، بين خيمةٍ بدأتُ فيها طفلًا، وخيمةٍ عدتُ إليها شيخًا، يكتمل القوس الفلسطيني على وجعه المفتوح. سبعون عامًا لم تكن زمنًا عابرًا، بل امتحانًا طويلًا للذاكرة والصبر والمعنى. تغيّرت الوجوه، وتبدّلت الأمكنة، واتسعت المنافي، لكن الخيمة بقيت شاهدةً على أن الوطن لا يُقاس بالمساحة، بل بالثبات في القلب.
قد نُهزم في معركة، وقد نُخذل في سياسة، وقد نُدفع قسرًا إلى النزوح مرةً بعد مرة، لكننا لا نُهزم في الحكاية. فما دام الفلسطيني قادرًا على أن يروي قصته، ويعود إلى واجبه، ويقف حيث يجب أن يكون، فإن الخيمة—مهما طالت—ليست نهاية المشوار وخاتمة الحكاية، بل علامة انتظار لوطنٍ ما تزال تتشكّل ملامحه، ولكنه، بتراثه وذكرياته، عقيدةٌ ووجدانٌ لا يعرف للموت أو الغياب طريقًا.

شاركها.