يودّعنا هذا العام وهو لم يرفع سحائبه السوداء عن سماء قطاع غزة. عامٌ آخر ثقيلٌ مرّ علينا، ونحن نعيش تحت القلق الدائم، وتلاحقنا سياسات القتل والتجويع والحصار، ونستقبله ونودّعه من داخل خيام النزوح، حيث تختلط قسوة الطقس بمرارة الفقد، ويغدو البقاء ذاته فعلَ صمودٍ يومي.
لاشكَّ أن السابع من أكتوبر كان حدثًا استثنائيًا في تاريخ نضالنا الفلسطيني، لحظةً مفصليةً أعادت التذكير بحقيقةٍ حاول الاحتلال طمسها طويلًا: أن هذا الشعب لم يُكسر، وأن إرادته في المقاومة لا تزال حيّة، وأنه قادر—من حيث المبدأ—على مواجهة الاحتلال ومغالبته، لو توفّر الحد الأدنى من التوازن في القوى، أو حتى شيء من العدالة في مواقف دول العالم.
غير أن الحقيقة القاسية التي لا يجوز القفز عنها، أن إسرائيل لم تخض هذه الحرب وحدها. لقد قاتلت غزة بكل الإمكانات والتقنيات العسكرية والأمنية الأميركية، وبالغطاء السياسي والدبلوماسي الغربي الكامل، فيما كنّا نحن—وهنا مكمن الضعف الحقيقي—نواجه آلة الحرب شبه منفردين. لا صفًّا داخليًا جامعًا يخفف الكلفة، ولا ظهرًا عربيًا أو إسلاميًا يساندنا ويذود عنا، ولا مجتمعًا دوليًا أنصف الفلسطينيين في حقهم المشروع بالمقاومة، أو حتى في تطبيق ما يدّعي تبنّيه من حلّ الدولتين، الذي تؤيده غالبية دول العالم نظريًا، وتتجاهله عمليًا.
نعم، يمكن القول إن السابع من أكتوبر كان معركة انتصرت فيها المقاومة في لحظتها الأولى، لكنه فتح في المقابل باب حربٍ شاملة غير متكافئة، خسرنا فيها عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، ودمّرت خلالها البنية العمرانية والاقتصادية والاجتماعية لقطاع غزة. لم يُهزم الشعب الفلسطيني، ولم يحقق بنيامين نتنياهو نصرًا سياسيًا أو أخلاقيًا، لكنه ارتكب مجازر واسعة، ودمّر منظومات الحياة الأساسية من مياه وكهرباء ومستشفيات، وحوّل أكثر من مليوني إنسان إلى نازحين يعيشون في خيام لا تقي حرًّا ولا بردًا ولا تحفظ لقاطنيهاسرًا ولا سترًا.
بمعايير الحروب ونتائجها، وبعيدًا عن الشعارات والانفعالات، لا يمكن إنكار أن التقديرات كانت خاطئة، وأن الحسابات لم تأخذ بعين الاعتبار حجم الردّ، ولا طبيعة النظام الدولي، ولا استعداد هذا العالم لغضّ الطرف عن جريمة إبادة جماعية تُرتكب على الهواء مباشرة، طالما أن الضحية فلسطينية.
ومن هنا، يبرز اليوم خلطٌ واضح بين خطاب حركة حماس العام وخطاب الشارع الفلسطيني من ساكني الخيام. فالحركة ترى أنها أنجزت اختراقات مهمة على مستوى الرأي العام الغربي، ودفعت باتجاه اعترافات أوسع بدولة فلسطين، وأعادت القضية الفلسطينية إلى واجهة المشهد الدولي.
في المقابل، ينظر الشارع الفلسطيني—المنهك بالجراح والفقد والنزوح—إلى الأمور من زاوية مختلفة: زاوية الكلفة الباهظة، والدم المسفوك، والبيوت المهدّمة، ومستقبل الأبناء الذي يزداد غموضًا.
هذا التباين لا يعني تخوينًا، ولا إنكارًا لحق المقاومة بوصفه حقًا مشروعًا كفلته القوانين الدولية، لكنه يفرض مراجعة وطنية صادقة وشجاعة، تميّز بين شرعية الفعل، وحكمة القرار، وبين النوايا والنتائج. فالشعوب لا تعيش على المعاني المجردة وحدها، بل على قدرتها على الصمود طويلًا، وحماية إنسانها، وصون وحدتها الداخلية، وبناء استراتيجية جامعة لا تُدار بردود الأفعال.
يودّعنا هذا العام والانقسام الفلسطيني ما يزال سيد الموقف، وغزة بكل جراحها ما تزال تنزف، لكن التاريخ لم يُكتب بعد. والدرس الأكبر الذي ينبغي ألا يُهمل، أن قوتنا الحقيقية لا تكمن فقط في شجاعة المواجهة، بل في وحدة الصف، وحسن التقدير، وبناء مشروع وطني جامع، لا يترك غزة وحدها، ولا الفلسطيني وحده، في مواجهة نظام دولي اختلّ ميزانه الأخلاقي.
عامٌ يرحل… وغزة باقية، بجرحها، وصبرها ودموعها، وحقها الذي لا يسقط بالتقادم.
