أربع وعشرون ساعة من حياة امرأة
أثير – الروائي الأردني جلال برجس
كانت أمي وهي تحيك لنا قبعات صوفية ذات لون واحد، تنال إعجاب الكثير ممن يرونها، تكسر حدة ذلك اللون بعدد قليل من الخيوط ذات الألوان المغايرة، لكن خيطًا واحدًا بعينه هو الذي يعلن عن جمال تلك القبعة، ويجعلها على مسافة قصيرة من محبة من يراها. وما كان لذلك أن يحدث لولا نضوج الرؤية السرية في الحياكة، وما تقوم عليه من بُعد فني فطري تشكل على نحو مبهم. وفي الروايات التي وجدتْ مكانًا لها عند القراء هناك خيط لو أزيل، رغم عدم انتباه الكثير له، ستفقد تلك الرواية إيقاعها السري الذي أوقعنا في غرامها، وجعلها تأخذ مكانها في الذاكرة. ومن هذه الروايات (أربع وعشرون ساعة من حياة امرأة) التي نقلها إلى العربية ببراعة الكاتب التونسي (الأسعد بن حسين) لصالح دار مسكلياني، الرواية التي كتبها النمساوي (ستيفان زفايغ) الذي وقع في غرام الفلسفة وهو في العشرينيات من عمره، ونال الدكتوراه فيها. وبالتالي جعلته يقارب موضوعات إشكالية ببساطة عميقة، وبتكثيف لافت، ليس فقط على صعيد الاقتصاد اللغوي، إنما أيضًا الاقتصاد المشهدي السردي إن أجيزت لي التسمية.
ينطلق (زفايغ) في روايته القصيرة هذه، من إشكالية المفهوم الأخلاقي، وعلاقته بالميول الإنسانية، وما يمكن أن يحدث من صراع في هذه المنطقة، وذلك عبر حكاية سيدة إنجليزية ستينية تروي قصتها لشاب يقطن في فندق نزلت فيه بعد أن سمعت حوارًا بين مجموعة من النزلاء حول (هنرييت) سيدة متزوجة هربت مع شاب بعد أن وقعت في غرامه. بني الحوار في معظمه على الرفض من زاوية أخلاقية، من دون أن يلم المتحاورون بما يحيط (هنرييت) من دوافع مباشرة، وغير مباشرة، وهنا يُبرز (زفايغ) مجانية سهولة نشوء دور القاضي لدي أي إنسان، وبالتالي إطلاق الأحكام بشكل قطعي. تتبنى السيدة الستينية موقفًا مغايرًا ومعارضًا للحكم الأخلاقي في هكذا واقعة. بل ترى أنه بلا قيمة، وأن هناك دومًا مبررات لا يرغب الكثير التطرق لها.
تحكي تلك السيدة قصتها التي حدثت في أربع وعشرين ساعة للشاب سارد هذه الرواية، فنكتشف أن موقفها نابع من تجربة شخصية مشابهة، إذ تعرفت صدفة، بعد وفاة زوجها بشاب مقامر خسر كل ما يملك، وصار على مقربة من الانتحار، فانهمكت من دون أن تدري أنها وقعت في غرامه، بإنقاذه مما هو مقدم عليه، فرافقته إلى فندق رخيص، لكن مشاعرها التي أحست بها صادقة جعلتها تشاركه السرير لليلة واحدة رغم صراعها الداخلي حول ما اقترفته كإحدى نبيلات الطبقة الراقية. لكن الحب يدفعها لتجاوز صراعها؛ ففي اليوم التالي منحت الشاب المال، واصطحبته إلى الكنيسة ووعدها ألا يعود إلى المقامرة، ووعدها أيضًا أن ينتظرها في محطة القطار لتودعه ذاهبًا إلى عائلته، بعد أن أمضت معه وقتًا كانت فيه مُحبة بشغف لم يحدث لها من قبل. لكن الشاب يغادر من دون أن يفي بوعده، ومن دون أن يعرج على أمنيتها غير المعلنة بأن يدعوها لمرافقته وهي التي أعادته إلى الحياة، حينها كانت ستهجر كل شيء وتمضي معه. في المساء يأخذها الحنين إلى صالة القمار، المكان الذي شهد انطلاقة تلك المشاعر الاستثنائية، فتجد الشاب يقامر من جديد، لكن هذا لم يكن ذا أهمية مقابل تلك الشخصية العنيفة التي قابلها بها، غاضبًا، يطلب أن تطرد خارج المكان وكأنه هذه المرة بلا قناع.
يتجلى الخيط الذي لو أزيل في هذه الرواية فتتراجع قيمتها، في الفارق بين (هنرييت) وبين بطلة هذه الرواية؛ فطبيعة علاقتها بذكرى زوجها المتوفى مثالية، فيها كثير من التضحية التي يراها البعض منطقة خسائر لا مرابح. بينما (هنرييت) تعيش مع زوج غير مرغوب فيه. ثنائية لافتة تتكون من امرأة تقدم على فعل الخيانة الزوجية، وامرأة تعاني المرارة أمام ما فعلته رغم وفائها لزوجها الراحل.
لقد صارت هذه الثنائية منطقة لمقاربة المفهوم الأخلاقي عند (زفايغ)، وربطه بسلوك المقامرة الذي يمكن أن نقيس كثيرًا مما نفعله بوعي المغامرة في حياتنا. المقامرة التي غالبًا ما تأتي كفعل للهروب من الواقع نحو ما منطقة نجد فيها ذواتنا، لكن (زفايغ) هنا لا يهشم المبنى الأخلاقي حينما قال: “أعتقد أن امرأة تتبع غريزتها بحرية وشغف أشرف من تلك التي تختار -كما جرت العادة-أن تخون زوجها عبر إغماض عينيها وهي بين أحضانه”.
لقد ناقش (زفايغ) عبر حكاية حدثت لامرأة في أربع وعشرين ساعة، صراع الإنسان مع الأخلاق، وبيَّن كيف أن الإنسان يمارس دور القاضي والجلاد حيال قضايا من هذا النوع، من غير أن يلتفت إلى أن الكون دائري، عبر تقاطع حكايتي السيدة و(هنرييت). وكأنه يقول: كلنا مقامرون، وكلنا حينما يقف قبالة نافذة الأخلاق يجد نفسه أسير الحيرة الإنسانية الأزلية، رغم انحيازنا لها.