أين أخطأت إيران؟ محمد ياغي
2025 Aug,20
لم يكن ما وصلت إليه إيران من حالة ضعف قدراً لا يُمكن ردّه، بل هو نتاج سلسلة من الأخطاء التي رافقت طريقة تعاطيها وحلفائها مع السابع من أكتوبر.
لقد ارتكبت «حماس» الخطأ الأول؛ بعدم التنسيق مع حلفائها قبل هجماتها في أكتوبر، وهي بهذا لم تفاجئ فقط دولة الاحتلال ولكنها فاجأت أقرب حلفائها في حركة المقاومة الفلسطينية وفي الإقليم، وهذا خطأ كبير بالطبع، لأنّ حدثاً بحجم ما جرى كان من المؤكد أنه ستكون له ارتدادات محلية وإقليمية كبرى.
يُمكن بالطبع فهم الأسباب التي أدّت لِتكتّم «حماس» وهو الخوف من خسارتها لعنصر المفاجأة، لكن على الأقل كان هناك نقاش يجب أن يجري ولو بشكل افتراضي، لمعرفة حجم التزام الحلفاء مع «حماس» إن حدث كذا أو كذا، وعلى ضوء ذلك كان يجب اتخاذ القرار إما بالذهاب للسابع من أكتوبر وإما بالامتناع عنه. لكن من الواضح أن هذا النقاش الافتراضي لم يحدث مع الحلفاء وإن حدث فهو لم يَكن معمقاً يُمكن بناء استخلاصات منه، وهو ما نفهمه من تأكيدات قيادات «حزب الله» في أكثر من مناسبة أنهم فوجئوا بما جرى ولم يجرِ التنسيق معهم.
لكن خطأ «حماس» أعقبته أخطاء قاتلة من الحلفاء أنفسهم. لقد دخل «حزب الله» المعركة «بخجل» في محاولة منه «للإسناد» ولكن أيضاً لإبعاد الحرب الشاملة عن لبنان. وهو لم يُقدر بشكل صحيح أن العقيدة الأمنية الإسرائيلية كلها تغيرت بفعل السابع من أكتوبر، وأنها انتقلت من عقيدة «الردع» إلى عقيدة «المنع»: حرمان أعدائها من امتلاك أي قدرات عسكرية تُشكل خطراً عليها.
لذلك كان استمرار «حزب الله» وإيران في الاعتقاد بأن الردع لا يزال ممكناً هو أحد أكبر أخطائهم، على الرغم من أن السلوك الإسرائيلي في غزة حرب الإبادة التي كانت تخوضها وما زالت كان من الواضح فيه أن دولة الاحتلال قد تخلّت عن عقيدة «الردع»، وتخلت عن الاكتراث بسمعتها الدولية، وتخلت عن حسابات الخوف من الخسائر البشرية.
لقد قرر سوء التقدير هذا سلوك إيران وحلفائها. بداية باتباع «حزب الله» سياسة «نصف الحرب» التي خاضها تحت مسمى الإسناد، مُعتقداً أنه هو من يتحكم بمنسوب الحرب وليست دولة الاحتلال. وكان هذا واضحاً في عدم رده السريع على اغتيال صالح العاروري، رئيس مكتب «حماس» الضفة، في الضاحية الجنوبية لبيروت في كانون الثاني 2024. وهو ما فتح الطريق لاغتيال «فؤاد شكر» قائد أركان «حزب الله» في الضاحية نفسها، نهاية حزيران من نفس العام.
وحتى عندما رد «حزب الله» على الاغتيال، جاء الرد متأخراً قرابة 40 يوماً، وكان محسوباً بدقة؛ فهو استهدف قاعدة عسكرية للاستخبارات في أطراف تل أبيب، ولم يستهدف قادة إسرائيليين أو عسكريين في تل أبيب نفسها. وعلى الرغم من أن إسرائيل استهدفت المدنيين اللبنانيين بشكل مباشر خلال حرب الإسناد، إلا أن الحزب تجنّب استهداف المدنيين الإسرائيليين وسمح بذلك لإسرائيل بالاستمرار باستهدافهم.
وكان من الواضح أن إيران قد تركت لحلفائها أن يقرروا هم بأنفسهم كيفية الرد على الهجمات الإسرائيلية، وكان هذا من أخطائها الكبرى. فإيران لم تطلب من سورية التدخل في الحرب لا لإسناد غزة، ولا حتى للرد على الانتهاكات العديدة المتتابعة لسيادتها، ولا على قتل مستشاريها في السفارة الإيرانية بدمشق في كانون الثاني 2024، وبالتالي سمحت لسورية – الأسد بالاستمرار بأن يكون عبئاً على محور المقاومة بدلاً من أن يكون رديفاً لها، وهو الذي كان يمتلك ترسانة ضخمة من الأسلحة كان بإمكانها أن تُحدِث فرقاً كبيراً في المعركة (ترسانة دمرتها إسرائيل بسهولة في خمسة أيام بعد السقوط المفاجئ لنظام الأسد بفعل الضربات التراكمية لدولة الاحتلال).
وحتى عندما قامت إيران بالرد على اغتيال مستشاريها العسكريين ودبلوماسيها في دمشق، جاء الرد متأخراً بعد أكثر من شهرين، ولقد قامت بذلك لوحدها ولم تطلب أن يشاركها في الرد باقي أطراف محورها. وقد فعلت نفس الشيء عندما تم اغتيال إسماعيل هنية على أرضها نهاية تموز 2024، فالرد جاء بعد أكثر من شهرين ولوحدها أيضاً. وهو ما أظهر لدولة الاحتلال أن كل طرف في «المحور» يُمكنه أن يقرر ماذا يريد وماذا سيفعل وفق «ظروفه الخاصة» في الوقت الذي كانت فيه تسعى للانفراد بكل طرف على حدة.
وتتالت الأخطاء لاحقاً أيضاً، ومنها قبول «حزب الله» بوقف لإطلاق النار دون أن يترافق ذلك مع وقف لإطلاق النار في غزة، في أوضح صورة لواقع أن الساحات لم تكن أبداً موحدة، وأنها تفتقد لأهداف سياسية مُتفق عليها، ولغرفة عمليات واحدة.
صحيح أن من يده في النار ليست كمَن يده في الماء، لكن الصحيح، أيضاً، أن معركة تخوضها دولة الاحتلال لتقرير مصير المنطقة، ولتكون فيها هي سيدتها والمُتحكمة بها، لا يكون فيها وقف لإطلاق النار، لارتداداته على الجميع، اللهم إلا إذا كان هذا الوقف يشمل الجبهات جميعها وباتفاق الجميع وليس في جبهة لبنان لوحدها.
ولا نقول ذلك بعقلية المغامرين، ولكن لأن التراجع أمام العدو يسمح له بالتقدم وتحقيق أهدافه، أما الاستمرار فيعني الاستنزاف وحرمان العدو من الراحة ومن تحقيق أهدافه، والكلفة بالطبع ستكون عالية لكنها أقل دائماً من كلفة الاستسلام له، وهو ما نشاهده الآن في أكثر من ساحة.
ولقد سمح خروج «حزب الله» من الحرب، بخروج فصائل الحشد الشعبي من المواجهة ودونما قرار مُعلن. وهنا نتساءل إن كان هذا قرار الحشد الذاتي أم أن القرار كان إيرانياً. وفي جميع الأحوال، إن خروج «حزب الله» والحشد، والضربات الهائلة التي تلقتها «حماس» و»أنصار الله» في اليمن بعد ذلك، قد فتحا الطريق لإسرائيل لإعلان الحرب على إيران بعد ستة أشهر على وقف إطلاق النار في لبنان.
وإذا كان «حزب الله» وبعض فصائل الحشد الشعبي التي تؤمن بولاية الفقيه، بمعنى أن مرجعيتها السياسية والدينية هو المُرشد الأعلى لإيران، فإن عدم مشاركتها في الحرب إلى جانب إيران كان أيضاً أحد أخطاء إيران؛ لأن دخولهم في الحرب إلى جانبها كان سيعيد شعار وحدة الساحات إلى الواجهة وسَيُظهر الكلفة العالية للحرب عليها.
لكن إيران استمرت في سياسة ضبط النفس، وفي محاولات منع التصعيد حتى عندما تبين لها أن أميركا قد دخلت مباشرة في الحرب لتدمير منشآتها النووية. وهو ما عكسه ردها الضعيف والمحسوب بميزان من ماء على قاعدة العديد. كان الأصل أن تُظهر إيران حجم الخطأ الأميركي والإسرائيلي بالهجوم على أراضيها، لكنها لم تختر أن تفعل ذلك، وهذا سيشجعهم على الهجوم مُجدداً عليها، وربما في اللحظة التي يكون فيها حلفاؤها يصارعون للبقاء على قيد الحياة في بلدانهم.
إن سلسلة الأخطاء هذه كان من الممكن تجنبها منذ البداية لو كان هنالك غرفة عمليات وسياسة واحدة لأطراف المحور، لكنهم لا يُدركون حتى الآن أهميتها، وهذا يتجاوز الوقوع في الخطأ إلى الوقوع في الخطيئة.