إنـقـاذ مـا تـبـقـى مـن غـزة..

2025 Jul,14

صور وقصص كثيرة ترد من غزة، مشاهد مروعة ومرعبة، قصف عشوائي، استهداف تجمعات سكنية، تدمير المنشآت المدنية، معدل عدد الشهداء اليومي بحدود المائة، وأضعافهم من الجرحى، مليونا نازح في الخيام، جرائم الاحتلال فاقت ببشاعتها جرائم البرابرة والهمج بمراحل.. كل هذا معروف للجميع، إذ تمارس إسرائيل جرائمها الوحشية أمام سمع وبصر العالم، وعلى الهواء مباشرة.

في الجانب الآخر، ثمة مشاهد لا تقل إيلاما وفجاعة وخطورة.. هي نتاج حتمي للعدوان ولحرب التجويع التي يمارسها الاحتلال.. وهذه المشاهد نتجاهلها، ونتعامى عنها، رغم أن الكثير من أبناء غزة تحدثوا عنها وصوروها، والكثير منهم أيضا لم يذكرها لما تتضمنه من إحراجات ومحاذير اجتماعية، ولكن لا بد من ذكرها وتسليط الضوء عليها، رغم قساوتها.. ودون أن تنسينا أن الاحتلال هو المتسبب الأول والرئيس عن هذه الكوارث الإنسانية.  
أما من هم خارج غزة فيتجاهلون تلك المشاهد لأسباب أخرى؛ لأنها تخدش الصورة النمطية التي شكلوها في أذهانهم عن غزة: أهلها أبطال صامدون يتحملون فوق طاقة البشر، فيها مقاومة باسلة، وتكافل اجتماعي وصبر على الألم.. ولكن للأسف هذه الصورة غير دقيقة، ولا تعكس الواقع، بل العكس هو ما يجري فعليا.
الحرب تُخرج أسوأ ما في النفس البشرية، هذا قانون طبيعي، تم تجريبه آلاف المرات على مدى تاريخ البشرية المظلم والمليء بالحروب.. عندما يتعرض أي مجتمع لأهوال الحرب بكل ما تتضمنه من قتل وتدمير وخوف وجوع يتصرف كل فرد تقريبا بصورة مختلفة عن شخصيته الأصلية، يرتد إلى بدائيته، ينحاز إلى غرائزه، يصبح قانون البقاء هو القانون الفاعل والمحرك، على مستوى الأفراد والجماعات، تنهار المنظومة الأخلاقية والمجتمعية وكل القيم الضابطة والمنظمة لحياة الناس، ويتحول المجتمع إلى غابة، وساحة صراع.. وهذا ما يحدث في غزة، نقولها بكل مرارة وألم.
إضافة إلى أهوال القصف والتقتيل والتدمير، هناك مصاعب الحياة اليومية، ومحاولات تدبر ما يقيم الفرد والعائلة ويبقيهم على قيد الحياة؛ توفير أدنى وأبسط متطلباتها، وتلبية الحاجات الفسيولوجية، وهذه الصعاب تبدأ من أول شروق الشمس، ولا تنتهي: الوقوف في طوابير الذل على المرحاض، وعند التكية، ولشحن الجوال، وتعبئة غالون مياه، والبحث عن كومة حطب، أو وجبة، ومحاولة اتقاء حر الصيف وأمطار الشتاء، ومطاردة قوافل الإغاثة، والزحف على البطون لساعات وأميال على أمل الحصول على كرتونة معلبات، بكل ما يتضمنه ذلك من مخاطر لدرجة أن المئات قُتلوا وهم في طريقهم للحصول على مساعدات.
كل هذه الحاجات رغم مشقتها وصعوبة توفيرها، وما يترتب عليها من ذل وهوان قد تكون مستوعبة إلى حد ما، لكن الأصعب من كل ذلك يتمثل في الظواهر الاجتماعية التي نشأت وتضخمت في ظل هذه الظروف الاستثنائية وغير الإنسانية، فمثلا يعرّض المواطن نفسه لكل المخاطر ويحمّل نفسه فوق طاقتها، وينتظر لساعات وأيام حتى يحصل على كيس طحين، وبمجرد أن يحمله على كتفه وفي طريقه إلى خيمته تعترضه مجموعات من الشبان المسلحين والملثمين فيوسعونه ضربا وقد يقتلونه، ثم يصادرون ما حمله من طعام.. وهؤلاء ليسوا فقط كما يظن البعض مجرد عصابات شريرة ومنظمة، هؤلاء منهم جوعى ومحرومون وخائفون، حتى الأطفال انضموا إلى هذه الظاهرة وصاروا يسلبون بعضهم بعضا، بمعنى أن هذا التشوه وصل إلى الأطفال، وسلبهم طفولتهم وبراءتهم.
لم يعد هناك أمن ولا أمان، طغت الفردية والأنانية على كل شيء، فمن لا يقاتل بأسنانه وأظافره لينتزع كرتونة معلبات أو كيس طحين سيموت هو وعائلته من الجوع.. وهنا لا أوجه أي اتهام، ولا انتقد أحدا، ولا يحق لي ولا لغيري أن نلومهم، فقبل أن تصدر حكمك تخيل نفسك في خيمة، وأطفالك أو أبواك يئنون جوعا، كيف ستتصرف؟ فقط تخيل حجم المأساة، ومدى الخوف والقلق والرعب وحالة اليأس التي يعيشها المواطن هناك.
تخيل نفسك وقد استيقظت فجأة فوجدت بيتك الذي بنيته حجرا حجرا، وحارتك التي نشأت فيها، ومدينتك التي أحببت قد تحولت كلها إلى أكوام من الردم والخراب، عشرات ممن تحبهم ماتوا دفعة واحدة، ودون مقابل.. تخيل نفسك تمشي وسط هذا الدمار، بلا حماية، ودون أفق للخروج من هذا الكابوس المرعب.
لقد وصلت حدود المأساة درجة لا يمكن تصورها، وصلت إلى حد فقَدَ الموت معناه ورهبته، صار مشهد الجثث الممزقة والمتفحمة والمطروحة أرضا والملقاة على قارعة الطريق مشهدا عاديا، يمر من جانبها المواطن ويمضي في سبيله، فهناك ما هو أهم وأكثر إلحاحاً.. حتى أهل الشهيد لم تُتَح لهم فرصة الحزن، والحداد، وإقامة بيت عزاء، واستقبال المعزين، ودفن الميت بطريقة محترمة.. مدينة شبعت من الموت فماذا تنتظر منها؟ أقارب الشهيد وأهله فقط من يتجرعون الحزن والقهر، وحدهم، وبصمت، دون سند، ودون عزاء، وبانتظار الشهيد القادم.
ما يحدث في غزة تجاوز الكارثة، على الصعيد الاجتماعي انهيارات خطيرة، وتفتت وفقدان الأمن والأمل، ونذر اقتتال وثارات وانتقام وسرقات وتعديات وفوضى.. على الصعيد السياسي الوضع أخطر: مخاطر ومخططات التهجير، إعادة هندسة المكان وفق الرؤية الإسرائيلية ولأمد طويل جدا، ذات المخاطر وأكثر تتربص بالضفة الغربية، وقد استباح الاحتلال كل شيء، وفعل ما عجز عن فعله طوال سبعة عقود ماضية، بل وحقق ما كان يراه حلما بعيدا.
باختصار: وصلت إسرائيل أعلى درجات الغطرسة والهيمنة والتفرد، غيرت معالم وخرائط الشرق الأوسط، ولديها ضوء أخضر أميركي ودولي لتفعل ما تريد، وقد استغلته أبشع استغلال.. الجانب الفلسطيني في أضعف حالاته؛ شعبيا وحزبيا من سلطة وقيادة وفصائل ومقاومة ومجتمع وخطاب إعلامي وواقع اقتصادي.. والوضع العربي والإقليمي لا يقل ضعفا، بل وكأنه مفصل على مقاس إسرائيل.. بالنسبة لإسرائيل هذه فرصة ذهبية ولن تتكرر، وقد خسرت في سبيل الحصول عليها مئات القتلى ومليارات الدولارات وسمعتها ومكانتها وسرديتها التقليدية، ومن الحماقة الاعتقاد أنها فعلت كل ذلك من أجل القضاء على «حماس»، فقد نالت من كل محور المقاومة في غضون أشهر، وبعدد قليل جدا من القتلى.  
ومع كل ذلك، تبقى بارقة أمل، المهم أولا إيقاف الحرب، وبأي صيغة، وأختم بما كتبه الصديق عصمت منصور: «لا انتصارات هنا سوى انتصار استمرار الحياة وحقن الدماء، وحفظ وجود الناس على أرضها. بعد هذه الحرب، سيشق شعبنا بنفسه طريقه من جديد، وسيكمل مشروع تحرره، ويستنهض قواه الحية وطاقاته نحو الهدف الحقيقي: الحرية والحياة والتقدم. سيكون هناك تائهون كثر بعد انتهاء فورة التهييج والشعارات العالية، والواقع كفيل بهم. علينا أن نساعدهم وأن نتحد أولاً».

شاركها.