إيكونوميست: “في لحظة القوة العسكرية تبدو إسرائيل ضعيفة للغاية”
نشرت مجلة “إيكونوميست” في عددها الأخير افتتاحية حذّرت فيها من وقوع إسرائيل في مستنقع غزة، وقالت إنها تبدو في لحظة تفوقها العسكري عرضةً للخطر العظيم، داعية الولايات المتحدة مساعدة إسرائيل للبحث عن إستراتيجية جديدة.
وقالت: “هناك طريق ضيق للخروج من جحيم غزة؛ وقف مؤقت لإطلاق النار، والإفراج عن الأسرى الذي قد يؤدي إلى تغيير في الحكومة الإسرائيلية، أما ما تبقى من مقاتلي “حماس” في الجنوب، فيمكن احتواؤهم، أو ربما تلاشوا. ومن أنقاض غزة يمكن أن تبدأ المحادثات حول الدولة الفلسطينية التي تضمنها أمريكا وحلفاؤها في الخليج. ومن المحتمل أن تفشل المحادثات لوقف إطلاق النار، وهو ما سيترك إسرائيل عالقة في المسار الأكثر قتامة منذ إنشائها قبل 75 عاماً، ويتميز باحتلال لا نهاية له وسياسة متطرّفة وعزلة. ويعيش اليوم الكثير من الإسرائيليين في حالة إنكار بشأن هذا، لكن الحساب السياسي سيأتي في النهاية، ولن يكون السؤال حول مصير الفلسطينيين فقط، لكن فيما إن كانت إسرائيل ستزدهر في الـ 75عاماً المقبلة”.
وأضافت المجلة: “لو كنت صديقاً لإسرائيل فهذه لحظة غير مريحة للغاية”، مشيرة إلى أنها شنت، في تشرين الأول/أكتوبر، حرباً مبررة ضد “حماس”. وربما دمرت إسرائيل نصف “حماس” حتى الآن، ولكن “فشلت مهمتها” ومن عدة نواح؛ أولاً، فقد قاد رفضُها المساعدة في وصول المساعدات الإنسانية إلى سكان غزة لكارثة إنسانية كان يمكن تجنّبها، وتجاوزت حصيلة القتلى في الحرب أكثر من 20,000 وفي تزايد [تجاوزت 31,000 ]. ورفضت حكومة المتطرفين التي يتزعمها نتنياهو خطط ما بعد الحرب، والتي اقترحت تسليم غزة للسلطة الوطنية، أو إلى قوة دولية.
وعليه، فالنتيجة المحتملة لحربها هي إعادة احتلال القطاع، ولو أَضَفْت الضفة الغربية، فستسيطر إسرائيل على حياة ما بين 4 5 ملايين فلسطيني.
وفشلت إسرائيل ثانياً في الداخل، حيث أصبحت المشاكل أعمق من قيادة نتنياهو الخطيرة. فقد حرفت حركةُ مستوطنين وجماعاتٌ قومية مفرطة السياسة نحو اليمين، وأدّت لاستقطاب في المجتمع. فقبل 7 تشرين الأول/أكتوبر، كانت هذه معركة حول استقلالية القضاء، إلا أن الحرب زادت من الرهانات، فمع أن اليمين المتطرف استُبعد من حكومة الحرب، إلا أنهم أضرّوا بمصالح إسرائيل القومية من خلال استخدام خطاب ناري وإثارة ودعم عنف المستوطنين الذين يريدون عرقلة المساعدات الإنسانية وإفشال خطط ما بعد الحرب. ولم تعد المؤسسة الأمنية، البراغماتية والمؤهلة، في مقعد القيادة.
أما الملمح الثالث لفشل إسرائيل، فقد كان من خلال الدبلوماسية الخرقاء، وكان الغضب بشأن الحرب متوقعاً، وخاصة في عالم الجنوب، ولكن إسرائيل قامت بمهمة فقيرة لمواجهة الغضب.
فالحرب القانونية، بما في ذلك مزاعم الإبادة الجماعية التي تصفها المجلة بـ “الزائفة” أضرّت بسمعتها. وكذا تراجع تعاطف الجيل الأمريكي الشاب مع إسرائيل، كما فعل آباؤهم. وحاول الرئيس جو بايدن الضغط على نتنياهو وحكومته من خلال تبنّي مواقفهم، لكنه فشل. وفي 14 آذار/مارس هاجم تشاك شومر، أقوى حلفاء إسرائيل في الكونغرس، جرائمَ “حماس”، لكنه وَصَفَ الزعيمَ الإسرائيلي بأنه ضلّ الطريق. وهي حقيقة لم يتم الاعتراف بها في إسرائيل، حيث ظل نتنياهو يكرر تصريحاته بأنه سيغزو رفح، آخر معاقل “حماس” كما يقول، في وقت يعيش فيه اليمين المتشدد فانتازياته حول العودة إلى غزة والاستيطان فيها.
هذا إلى جانب الوهم الذي يعيشه الكثير من الإسرائيليين، حيث يعتقدون أن استخدام الوحشية لإعادة الردع في غزة مبررة، ومن أجل التصدي للتهديدات الحقيقية.
وقد أثبتت غزة أنك لو قتلت إسرائيلياً فإن الدمار سيتبع. ولم يعد الكثيرون يؤمنون بوجود شريك للسلام. فالسلطة الوطنية متعفّنة، فيما تُظهِر الاستطلاعات أن نسبة 93% من الفلسطينيين تنكر ارتكاب “حماس” جرائم في هجومها على إسرائيل.
ويرى الإسرائيليون أن الاحتلال هو أفضل الخيارات السيئة، ويفضّل الإسرائيليون أن تكون لهم شعبية في الخارج، لكن الشجب ومعاداة السامية هو ثمن صغير يدفعونه مقابل الأمن.
وبالنسبة لأمريكا، فقد عبّرت عن غضبها من قبل، ولن تتأثر العلاقات، ولو عاد دونالد ترامب، فربما منح إسرائيل يداً مطلقة.
وتعلّق المجلة بأن هذه القصة المغرية هي طريق للكارثة. فالضرر على سمعة إسرائيل قد يعقد من مهمتها للقتال في غزة، كما أن التهديد بعيد المدى نابعٌ من إيران وجماعاتها الوكيلة، بما فيها “حزب الله”. وردع هذه الجماعات يحتاج إلى شراكة مع أمريكا، وبتعاون الحزبين في الكونغرس، والدعم الخليجي العربي. ويعتمد الاقتصاد على تصدير وخبرات التكنولوجيا بمنافذ على الأسواق العالمية. وبدلاً من توفير الأمن لإسرائيل، فالاحتلال الدائم يسمّم السياسات، ويزيد من جرأة المتطرفين، ويولّد التشدّد الفلسطيني.
وتعتقد المجلة أن مسار إسرائيل الحالي سيزيد السياسات الإثنية القومية، ما يشكّل تهديدات قانونية على الاقتصاد، ومع زيادة العزلة مع الغرب، ربما ضعف الردع. وربما وضعت شركات على القوائم السوداء، ما يدفع مدراءها لنقل عملياتهم إلى الخارج، أو اعتقالهم لو كانوا من جنود الاحتياط.
وتدعو المجلة الولايات المتحدة للمساعدة في تجنّب هذا المصير، ولو فشلت فستدفع نفسها الثمن الدبلوماسي. وأحسن طريق للخروج، هو وقف مؤقت لإطلاق النار، وفتح مسار لحل الدولتين. وبدون هذا، تحتاج السياسة الأمريكية لإعادة ضبط. وقد فشل تبنّي بايدن نتنياهو بداية الحرب، وكذلك ممارسة الإكراه. ولو حاولت أمريكا إجبار إسرائيل على الخروج من غزة في الوقت الذي تستطيع فيه “حماس” تجميع من نفسها من جديد، أو قيدت الدعم العسكري، وسحبت دعمها في الأمم المتحدة، فسيكون أمن إسرائيل عرضة للخطر. وربما استخدمت أمريكا طرقاً أخرى، مثل زيادة الدعم الإنساني واتخاذ قرار من جانب واحد لرفض توفير الأسلحة لغزو رفح، نظراً لعدم توفر المساعدات للمدنيين. وعليها توسيع قائمة العقوبات ضد المستوطنين المجانين، ومن أجل الإظهار للإسرائيليين أن أمريكا تدعم أمنهم، ولكن ليس المتطرفين أو الاحتلال الدائم. ويجب عليها مواصلة الإشارة بأنها ستعترف بالدولة الفلسطينية كجزء من حل الدولتين. ولكن هناك حدود لما يمكن أن تعمله أمريكا، ولن يتم التخلص من نتنياهو بسهولة، ولكن عندما يأتي الحساب فسيكون باهظاً.
فقد هزت الحرب كل الأوهام، ومنها أنه يمكن تجاهل الفلسطينيين، وأن السلطة لديها رغبة في الإصلاح، وأن معاداة السامية هي أمر نادر، وأن إسرائيل تستطيع إطلاق التصريحات حول حل الدولتين ومواصلة التوسع الاستيطاني في نفس الوقت، وأنه يمكن تدجين اليمين المفرط بالتطرف.
والأخبار الجيدة هي أن تيار الوسط لديه شعبية ما بين 5060% بين الناخبين، وأن المحكمة العليا لا تزال قوية، وهناك قادة أقوياء، وربما انتظر مستقبل إسرائيل، إلا أن معركة غزة بدأت.
وبالمحصلة تعتقد المجلة، في تقرير مطول آخر، أن الحرب لم تنتج بعد خاسرين ورابحين، فمع مرور ستة أشهر عليها، لم تحقق إسرائيل هدفيها: تدمير “حماس” أو تحرير الأسرى.
ومن الواضح أن غزو منطقة يعيش فيها 2.2 مليون، وبَنَتْ فيها “حماس” متاهة من الأنفاق للصمود أمام الهجوم، لم يكن سهلاً. وتعلّق بأن النظرة العامة تشي بأن إسرائيل أضعفت من قدرات “حماس”، ولم تخسر الكثير من جنودها، كما لم ينتشر النزاع في المنطقة، ولا في الضفة الغربية، أو بين الفلسطينيين في إسرائيل، وتم تحرير بعض الأسرى، لكن السؤال هل تَحسّنَ المنظور الأمني لإسرائيل؟
تقدم المجلة تفاصيل عن الضرر الذي أحدثته إسرائيل على بنية “حماس” العسكرية وترسانتها، وتزعم أن 13,000 من مقاتليها قتلوا في المعارك، وأنه تم سحق كتائب عدة، مع أن الوكالات الاستخباراتية الأجنبية تقدّم أرقاماً مختلفة.
وتزعم المجلة أن إسرائيل استطاعت تحرير نصف الأسرى تقريباً بدون تقديم تنازلات لـ “حماس”. إلى جانب هذا استطاعت التحكم بالجبهة الشمالية مع “حزب الله”. وعلى الجبهة الداخلية، وحّدت الحرب الأحزاب التي كانت متنازعة والرأي العام وتم تشكيل حكومة وحدة وطنية.
ورغم الغضب العالمي، فإن الدول العربية الست، التي وقّعت اتفاقيات تطبيع مع إسرائيل، لم تفعل أكثر من استدعاء سفرائها، ورغم الغضب على الحرب لا يزال الإسرائيليون يسافرون إلى دبي، ويومياً.
كل هذا لا يمكن أخذه كنجاح على المدى البعيد، فحصيلة القتلى غير مهمة في حرب غير متناسقة. وقد تعلّمت أمريكا هذا الدرس في فيتنام والعراق وأفغانستان. فـ “حماس” لن تجد فرصة لإعادة التجمّع وسط حطام غزة. وعندما تنتهي الحرب لن يكون القطاع قابلاً للعيش، وسيكون الناس بدون مأوى.
وتظهر دراسةٌ لجامعة سيتي في نيويورك، وجامعة أوريغان، أن نسبة 55% من مباني غزة دُمّرت وتم سحق اقتصادها، حيث ضربت المصانع والأعمال الصغيرة التي محيت ودمرت المحاصيل والماشية. ومزقت الدبابات والغارات الجوية الطرق. وتقدر الأمم المتحدة أن نسبة 76% من مدارس غزة تضرّرت أو دمرت، ونفس الأمر ينسحب على المستشفيات. وأشارت للمخاطر على السكان، فمن جهة سيحاول المتعلّمون الخروج إلى الخارج، وسيتجه من لديهم قدرات متواضعة إلى أوروبا للهجرة، إلا أن غالبية السكان سيظلون في الخيام والمخيمات المكتظة، ولسنوات قادمة، ومعظم هؤلاء من أحفاد اللاجئين. ولو حاولت “حماس” الخروج من أنفاقها واستعادة السيطرة فستفشل، نظراً لخسارتها الحكم، أو تراجع شعبيتها، أو المخاطرة بنزاع جديد مع إسرائيل. وبدلاً من ذلك قد تعود إلى حرب العصابات.
وترى المجلة أن السلطة الوطنية ستجد صعوبة في إدارة غزة، وهي غير القادرة على إدارة المناطق الخاضعة لسيطرتها في الضفة الغربية.
ويكافح الرئيس العجوز محمود عباس لاحتواء دعم “حماس” في مناطقه، حيث كشف استطلاع أن 62% من سكان الضفة يعتقدون أن “حماس” تمثل الشعب الفلسطيني، مقارنة مع 43 في غزة. لكن نسبة 88% تريد منه الاستقالة، وهو بالضرورة غائب عن غزة منذ سيطرة “حماس”، عام 2007.
وتأمل أمريكا والحلفاء العرب إعادة تنشيط الشرطة الفلسطينية في غزة، التي ظلَّ أفرادُها يتلقّون الرواتب بدون عمل. ولكن فعالية من تبقّى منهم بعد 17 عاماً غير مضمونة. وربما لجأت السلطة إلى العشائر لتوفير الأمن، وما سينتج هو أمراء حرب، وهذا لن يجعل إسرائيل آمنة. وتعتقد المجلة أن كل أعمدة الأمن الإسرائيلي: الردع، والتحذير السريع، والنصر الحاسم، انهارت في الحرب الحالية.
ومهما كانت النتيجة، نصراً فارغاً، أو احتواء لـ “حماس”، فالسيناريو الواضح هو أن إسرائيل دخلت في مستنقع غزة والاحتلال الدائم.