موقع مقالة نت
اهم المقالات التي تهم القارئ العربي

‎الأستاذ الدكتور محمد القضاة يكتب عبر “أثير”: إعادة مركز الرؤية؛ النخب المثقفة

0 16

أثير – أ.د. محمد القضاة، عميد كلية الآداب في الجامعة الأردنية

‎سألني أحد الأصدقاء عن غياب النخب المثقفة عن المشهد العام وعن غياب قدرتهم على التأثير في واقعهم، فكرت في سؤاله طويلًا، وقلت إن الواقع المعيش ينطوي على إشكالات واختلالات كثيرة في الوعي والفعل، وبين التجذر في الماضي والإقلاع عن الحاضر والمستقبل، وبين خطاب يتشبّث بالأصالة وخطاب رمادي يقفز في فضاء فضفاض، وكأننا بين معادلات تشهد عجزًا تعكس أزمة تطحن الوعي وتسطّحه وتضعه في قوالب جامدة، تزيد من التعصّب والانغلاق والتطرّف، حتى غاب فيها الفعل الثقافيّ الحصيف، وبين هذه الرؤى تبرز أهميّة مزج الأبعاد التي تحدّد القيمة الحقيقيّة للثقافة في إطار دقيق من المعاينة لردم الهُوّة التي تعيق الطاقات وتفجر الإبداع والإنتاج الثقافيّ في الأوساط التي تسعى الثقافة إلى التأثير فيها، والمؤسف أنها في غياب حتى تبدو بلا أثر أو حضور؛ وكأنّ سؤال القلق الذي طرحه شكيب أرسلان في أوائل القرن الماضي: لماذا تراجع العرب وتقدّم غيرهم؟! ما يزال حيًّا في الأذهان، لا بل غاب المثقف وسط هذا الصخب الإلكتروني والذكاء الاصطناعي، وغدا الخطاب الثقافيّ في تخبّط وانتظار وارتهان لقادم لا يأتي بجديد، فلماذا كلّ هذا الغياب؟

‎أَلأنّنا لا نعترف بالمأسسة والديمومة؟ أم لأننا لا نحسن التخطيط والاختيار ولا نعترف بالانفتاح؛ وإنما نحسن الانكماش والاتهام والدفاع؟! أم لأنّ النرجسيّة هي صفات ملازمة للمثقف النخبوي؟ ومن يتابع حال المشهد اليوم يشعر بألم وحزن على مآلات وغياب وواقع لا يحرّك غصنًا في الزمن العجيب الغريب. كنا نقول دائمًا إنّ الثقافة ليست ترفًا ذهنيًّا؛ وإنما هي أرقى درجات سُلّم التقدّم، تحصّن الإنسان وتدفع به إلى الرفاهية والوعي، واذا لم تكن كذلك! فلماذا تضع الدول المتقدّمة خططها الثقافيّة وأفكارها التنويريّة لمجتمعاتها وإنسانها؟ ولماذا تخصّص لها المؤسسات والدوائر والوزارات؟ والثقافة لا يمكن أن تكون ترفًا يسدّ فراغ الإنسان، ولا يمكن أن تكون منصبًا توزّع مكاسبُه على فئة دون أخرى، وإنما هي قاعدة حضارية تعيد للإنسان توازنه وتؤهّله للحوار والنقاش والرؤية، ودونها يبقى الفكر مُعطّلاً، والإنسان متأرجحًا في آرائه ومواقفه وتصوّراته، والمهمّ أنّها فعلٌ إنسانيّ لا غنى عنه، وأداة قياس وتمايز بين البشر، ورأس مال معنويّ يوسّع المدارك، ويمهّد الطريق للحوار والبناء والتقدم والتفاهم والتعاون والتنمية، ويؤسّس لقيم الثقة والتنافس وحبّ العمل والثواب والعقاب والابتكار والإبداع والإنجاز والمبادرة، ونقيض ذلك تقاعس وبرود وروتين وهروب واستجداء وتحيّز وشدّ عكسي.

‎الثقافة تعيد بناء قطاعات الحياة بأسلوب حضاري شفاف وبمنطق يكسر الجمود والثبات والتخلّف، وحين ندقق في سياسات الدول المتقدّمة نرى أنّ الثقافة قد مارست فعلها الحقيقيّ في النموّ والتغيير والرقي والتقدم، ولم تذعن للآراء الضيّقة والأفكار المريضة والتحيّز والفرضيات والاستغلال غير العقلانيّ، وظلّ هدفها الإنسان ورغبته في التجديد والإتقان بعيدًا عن الإحباط ومكنونات الفشل والتلوّث الفكري.

‎وحين نقرأ الواقع نرى أنه بحاجة إلى نسيم ينعش البدن، وماء زُلال يروي الظمأ، وفهم قائم على موازين تأخذ بالأسباب التي تبلغ بالمجتمع إلى مستوى الطموح، ولا تقبل ردود الفعل المركّبة القائمة على المفاخرة والمكابرة والمغالاة والبهرجة دون نفاذ إلى أطراف البيت كله بحركة تستوعب الرقعة الاجتماعيّة كلها، بحيث تتجنب تحالفات أصحاب المكاسب ومنطقهم النفعيّ الآني، ومواقف ضعاف النفوس من النفعيين. وفي هذا السياق، لا يجوز أن تبقى الحيرة والتبرّم والتعليل القاعدة، وإنما لا بدّ أن يتّسع تيّار الوعي لدى الجميع بحيث يحوي البيتُ إيقاعاتِ المثقفين وأفكارَهم وألوانهم، على أن يطالهم الدعم والرعاية والاهتمام والارتقاء على أساس من الانتماء وتأكيد الهُوِيّة الوطنيّة في المُنتج الثقافيّ، وتطوير الفكر والوعي وَفقًا لحاجات المجتمع وقدراته. ويبقى السؤال المُلح: أين المثقّف اليوم من كلّ هذا؟ لماذا يغيب يومًا تلو الآخر؟ أين النخبة المثقّفة التي غاب صوتها وفكرها؟ أين صولجانها وخططها؟ أين دورها في بناء مجتمعها؟ وكيف يمكن أن نعيد مركز الرؤية إلى مفهومه المعياريّ بعد أن غاب في سياق معرفة ذهنيّة مُجرّدة لا تجسّد المشهد الحالي الذي كان إلى وقت قريب ينمو وينحو باتجاه التنسيق والتميّز والفعل وبلورة ثقافة واضحة تخدم حركة التنوير والتغيير والإصلاح في شتّى شؤون الحياة؟ إنها أسئلة حيرى في ظل تماهي العقل، تحتاج منّا أن نفكّر في هذا الواقع تفكيرًا جادًّا يُفضي إلى حلول علميّة وعمليّة، ينجم عنها فِعْلٌ ثقافي يعيد إلى مثقّفينا ثقتهم بأنفسهم، ويهيّئ لهم مكانًا عَلِيًّا في المشهد الثقافيّ المحليّ، وما أحوجنا لهذه النخبة من جديد كي تضيء الحاضر برؤيتها وإبداعها وأفكارها.

اضف تعليق