لم يكن بإمكان نتنياهو وعصابته المجرمة من تحقيق اختراق بتشكيل عصابة إجرامية تنخرط في مخططات تسليح الجوع، مهما كان هذا الاختراق محدوداً أو معزولاً، لو كانت وحدة الحال الفلسطينية غير ما هي عليه. تماسك النسيج الاجتماعي سبق تأسيس السلطة، وقد رسخ تماسكه في الكفاح اليومي والتصدي لمخططات الاحتلال، وشكل الأداة الأهم لهذا النضال منذ ما قبل النكبة. التجربة الوطنية أكدت في أكثر من محطة أن أحد أبرز عوامل منعة وتماسك النسيج الاجتماعي تمثل دوماً بوجود قيادة وطنية موحدة في سياق المؤسسات الوطنية الجامعة، وقدرة هذه القيادة على الإسهام الفاعل في توفير مقومات الصمود للمجتمع بالشراكة الكاملة مع مؤسساته ومختلف مكوناته .

ظهر ذلك، وإن كان بصورة جزئية في مجتمع اللجوء في لبنان إبان العدوان الاسرائيلي حزيران 1982 لإلغاء وجود منظمة التحرير الفلسطينية في سياق ما سُمي بعملية “سلامة الجليل”. فلم يكن بإمكان قيادة الثورة الصمود العسكري لحوالي ثلاثة شهور لولا حرصها على ايجاد حلول للاحتياجات اليومية لمتطلبات حياة الناس من ماء وخبز وطعام و أدوية، ليس فقط للمقاتلين على محاور المواجهة، بل وكذلك للمدنيين من سكان المخيمات الفلسطينية وأيضاً للحاضنة الشعبية اللبنانية . إلا أن تجربة الانتفاضة الأولى، التي كان لمؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الجماهيرية دورٌ في انطلاقتها وإسهامها الفاعل في مواجهة مخططات الاحتلال، قد شكلت  إلهاماً غير مسبوق للنضال التحرري، حيث أبدعت في بلورة أجوبة ملموسة لافشال مختلف أشكال العقاب الجماعي التي عملت اسرائيل من خلالها على كسر إرادة المنتفضين.

ولكن، والحق يقال، بأن التوافق الوطني على تشكيل قيادة وطنية موحدة تقود الانتفاضة بكل محاورها الوطنية و الاجتماعية قد لعب الدور الحاسم، في صون وحدة وتماسك النسيج الاجتماعي، من خلال قدرة تلك القيادة على كسب ثقة الشارع، وتوفير الإجابات الملموسة لاحتياجات المواطنين عبر شبكة واسعة من التنظيم الشعبي والجماهيري لتوفير المواد التموينية والطبية و ادارة التعليم الشعبي، ومقاطعة الاقتصاد الاسرائيلي، وليس انتهاء بلجان الحراسة للمحلات التجارية والقرى والمخيمات والبلدات وصولاً لبعض أشكال العصيان المدني الشامل .

ليس المقصود هنا مقارنة الانتفاضة الكبرى وصمود الثورة في بيروت مع حرب الابادة الجماعية المستمرة في غزة. فلكل مواجهة ظروفها و بيئتها وأدواتها.  إلا أن الجوهري في كل معارك الكفاح الوطني يتمثل في وجود قيادة وطنية موحدة لا يقتصر دورها على المعركة العسكرية فقط، بل وعلى صمود مجتمعها وحاضنتها الشعبية وتحصينه من أي اختراق مجتمعي. ففي وقت أن اسرائيل طالما امتلكت مراكز أبحاث ولجان تحقيق وظيفتها استخلاص العبر والدروس، فإن الحالة الفلسطينية و القيادات المهيمنة عليها تأبى الاستفادة من عبر هذه التجارب. ظهر ذلك جلياً منذ بدء الاختلاف السياسي بعد أوسلو، إلا أنه تحول لاستعصاء بعد فشل وافشال جهود إنهاء الانقسام، ودخول الصراع على الشرعية لمراحل خطيرة باتت تمس شرعية الوجود وليس فقط مشروعية الحقوق .

فحرب الابادة لم تقتصر على محاولة حكومة تل أبيب كسر غزة وتهجير أهلنا منها، بل بدأت منذ ما قبل السابع من أكتوبر بفرض ما يعرف بخطة الحسم، والتي تستهدف الضم الواسع، وتفكيك السلطة إن لم تتمكن من إخضاعها الكامل لمشروعها الجليّ بروابط المدن تمهيداً لتطهير عرقي واسع قد بدأت ملامحه فعلاً في شمال الضفة.

ظاهرة عصابة الإجرام في جنوب القطاع بزعامة قاطع الطرق ولص المواد التموينية بحماية جيش الاحتلال ، هي نتاج الشقوق الناجمة عن غياب وحدة القيادة السياسية و الإرادة الموحدة للتصدي لاهداف حرب الابادة التي ينفذها الاحتلال، والتي لم تعد خافية على أحد. وقد أدركت حكومة تل أبيت أن قدرتها على تحقيق أهدافها بالوسائل العسكرية فقط قد فشلت، وربما وصلت لطريق مسدود، وأن إمكانية تحقيق هذه الأغراض الخبيثة يتأتي من خلال اختراق المجتمع وتحويل حالة الإرهاق التي لم تعتد تُحتمل إلى ما يحقق كسرها بمثل هذه الجيوب، مستفيدة من غطاء الانقسام المشؤوم، وحرب التجويع والتخاذل العربي والصمت الدولي.

عصابة “أبو شباب” ليست الأولى في تاريخ الاستعمار أو حتى الحالة الفلسطينية، ولكن تعجيل وأدها إلى مزابل التاريخ كما حدث مع روابط القرى، يستدعي موقف اجماع وطني معلن، و نأي الكل الوطني عن مثلها، وليس نأي البعض بالنفس عما يجري من إبادة، واستمراء لعبة تحميل الضحية مسؤولية جرائم الاحتلال التي تشكل مرتعاً لمثل هذه الظاهرة،والتي من الممكن أن تمتد بصورة أخطر لمختلف أرجاء الضفة.

خروج ناطقين عن هذه العصابة للإعلان عن تعاونها وتنسيقها مع بعض جهات في السلطة لا يعالج بتصريح محايد من ناطق أمني لم يدنها أو يكشف أبعادها، بقدر ما يتطلب قطع الطريق عبر تجفيف بيئة هذه الظاهرة الخبيثة وغيرها. وليس من وسيلة لذلك سوى الإعلان الفوري عن قيادة طوارئ موحدة للإنقاذ الوطني، والتشكيل العاجل لحكومة وفاق تعالج كل مكونات ملف غزة، بما يشمل المسؤولية عن مفاوضات وقف الحرب وتجنيد الرأي العام الدولي لتحويل التضامن الشعبي الكاسح إلى مواقف سياسة وعملية تجبر حكام تل أبيب على وقف المذبحة، وانقاذ أهلنا في غزة، والمصير الوطني لشعبنا، وحقه في الحياة والحرية والكرامة وتقرير مصيره الوطني في هذه البلاد التي لا وطن لنا غيرها .

شاركها.